وقف جيمي ساكنا، بينما يحدق في الضمادة. واستطاع أن يشعر بأصابع الفتاة وهي تمر على صدره مستكشفة. أمكنه أن يشعر بالقشعريرة، الناتجة ربما عن شفقة، التي سرت فيها وهو يمر بأصابعها على طرف الضمادات والأربطة التي كان يرتديها آنذاك. لقد أعطاها بذلك برهانا لإثبات كلامه. وقد صدقت البرهان، ووثقت في كلماته، وها قد ارتد على عقبيه وأخذ يفعل كل ما في إمكانه، ويبذل قصارى جهده ليبقى حيا.
بهدوء وضع جيمي الضمادة وربط اللفافة التي تثبتها في مكانها. وبهدوء ارتدى ملابسه وخرج إلى عمله. كان كل بضع دقائق يتوقف ويقف محدقا فيما أمامه. فقد قال لنفسه خمسين مرة ذلك الصباح: «لا يوجد أدنى احتمال أن أموت خلال ستة أشهر أو ست سنوات، أو ستين سنة، ما دمت مستمرا في التعافي كما أنا الآن. الطريقة الوحيدة التي أستطيع بها الموت هي أن أهلك نفسي، فإذا جاء يوم والتقيت بأليس لويز وجها لوجه، وبدت ظروفها مشفوعة بالتخفيف، فماذا ستظن بي لبقائي حيا؟»
عندئذ ظهر على السطح حس الدعابة لدى جيمي. «إذا آلت الأمور ذلك المآل وحظيت بفرصة للعيش، فلا أظنها ستطلب مني أن أقتل نفسي ما دام الجرح لم يقتلني، وإذا فعلت، فلا أظنني قد أتبع أوامر حتى سيدة من السيدات إلى ذلك الحد. سأخبرها أنني كنت صادقا، وأن ليلة العاصفة كانت حالكة علي كما كانت عليها، وأن الصراع الذي اضطرب في قلبي كان مثله مثل العاصفة التي ثارت في قلبها، أو العاصفة التي ثارت في البحر. سأخبرها أنني لجأت إلى الله فهب لنجدتي بحياة وعمل وأمل في السعادة. سأخبرها أنها إن لجأت إلى الله فستجد أن في وسعه حل مشكلاتها كما حلت مشكلاتي. سأخبرها أنه ليس خطئي أنني ما زلت حيا. لا، لا أستطيع مطلقا أن أقول لها ذلك أيضا. لقد أعطاني الله البداية. ويحسب لي أنني اغتنمتها. أعتقد أنه كان بإمكاني الاستمرار في تناول أصناف غير متناسبة من الطعام وحمل الهموم على كاهلي؛ كان بإمكاني المضي بينما تستهلكني حسرتي على نفسي وتملؤني السموم. حسبي من الأمر مسئوليتي عن اتخاذ القرار، والقدرة على القيام بالأشياء الضرورية حين أتيح المجال. اعتاد أبي أن يقول من منبره إن زمن المعجزات قد ولى؛ أما الآن فإن الله يمنحنا الفرص، وإذا أردنا المعجزات فعلينا أن نصنعها نحن البشر بأنفسنا.» استغرق حل هذه المشكلة الجزء الأكبر من اليوم، لكنها انتهت بأن توصل جيمي إلى الخلاصة بأنه كان صريحا فيما قاله، وأمينا فيما فعله، لكن تبدلت الأحوال بتغير الظروف.
ستسر مارجريت كاميرون سرورا بالغا حين تتفحص صدره المرة القادمة. وقد وجد نفسه مبتهجا جدا ، ومفعما بالأمل، حتى إنه كان في غاية الحرص على حماية ذراعه اليسرى وجانبه الأيسر. فقد بدا لجيمي أنه إن حدث أي شيء وتهتكت تلك الطبقة الحساسة من الجلد التي غطت صدره وعادت البقع الزاهية للظهور في الضمادة التي وضعها فإنه لن يقوى على احتمالها. إذ أدرك أنه إن حدث فسيأتي على ما تبقى لديه من سلامة عقل حتى إنه سيجلس ويبكي مثل أصغر الأطفال. فكان عليه الحفاظ على سلامة تلك الطبقة الرقيقة الحساسة مهما كلفه ذلك.
في بداية عمله كان جيمي نادرا جدا ما يغادر الموقع. فهو لم يذهب إلى البلدة قط، إلا للضرورة القصوى. لكن تدعوه الآن الضرورة القصوى للذهاب إلى هناك كثيرا. إذ دائما ما ينشأ شيء بشأن تسوية شئون سيد النحل، أو سبب يحمله على الذهاب لرؤية الدكتور جرايسون أو قاضي محكمة الوصايا أو إلى البنك المحتفظ بأموال تركة سيد النحل. كان علاوة على ذلك قد شرع يعتاد على الذهاب في زيارات عابرة إلى الرجل الذي كان سيد النحل يتبادل معه الخدمات. فقد وجد جون كاري رجلا ذا شخصية آسرة، رجلا مسليا، رجلا يستحق أن تتخذه صديقا. فقد كان جيمي في بعض الأحيان لا يفهم التعليمات الموجودة في كتب النحل فهما دقيقا. فيوضح له كاري كل شيء، ويشرحه بسرعة ومهارة بالغة مما جعل معرفته مفيدة حتى إن اقتصرت على العمل فقط. ومن ثم ظل مربي النحل يكثر من إنجازه عمله سريعا والذهاب لقضاء بضع ساعات في منحل رجل آخر.
سرعان ما بدأ جيمي يلاحظ أن مارجريت كاميرون كانت تراقبه أثناء عملها في المنزل وفي حديقتها. وما جعله يلاحظ ذلك أنه كان في كل مرة يغيب عن المنزل يجده عند عودته مرتبا، ويجد الأثاث وقد أزيل عنه الغبار، وملاءات الفراش جديدة، والمطبخ نظيفا، وإناء زهور على منضدة حجرة المعيشة.
وذات يوم عاد إلى المنزل فوجده متألقا. كانت مارجريت كاميرون في صباح ذلك اليوم قد تفحصت صدره للمرة الثانية وأخبرت جيمي بما كان يعرفه مسبقا، أنه مهما كان ضعيفا ، ومهما كان حساسا ورقيقا، ومهما كان معرضا للتشقق من أقل ضغط؛ فلا شيء يغير حقيقة أنه كان هناك نسيج من الجلد يغطي الجرح الذي في صدره بالكامل. كانت مارجريت كاميرون في مثل عمر أمه. وقد ألقت ذراعيها حول عنقه وقبلته، ورقصا رقصة مرتجلة بفرحة عامرة في الغرفة الصغيرة. كانت مارجريت قد نسقت ورودها الصفراء في المزهرية. وسحبت مقعد سيد النحل للأمام ووضعت أمامه الخف الذي ينتعله جيمي. كانت هذه طريقتها لدعوته لاتخاذ وضعه بصفته رب المنزل. كما وضعت منضدة عليها الجريدة اليومية بجانب المقعد، وقد تزين بالزهور كل ما في المنزل من مزهريات وأباريق سبق أن وضعت فيها زهور من قبل.
ابتسم جيمي سعيدا وهو يجول بنظره في أنحاء حجرة المعيشة. وتأمل كم هم قليلون في العالم الرجال الذين يستطيعون أن يأتوا بأشياء جامدة ويجعلوا منها حجرة مناسبة للمعيشة؛ كما فعل سيد النحل بالحجرة التي طبعها إلى الأبد بذوقه وفكره ونزعاته الفنية. بعد ذلك فتح جيمي الباب ووقف ساكنا؛ ساكنا مثل السكون الأخير قبل اندلاع عاصفة عاتية. إذ وجد حجرة النوم قد أزيل عنها الغبار، ووضع فرش نظيف؛ كانت متألقة، وتعبق برائحة المريمية - رائحة لم تقترن قط بمارجريت كاميرون ولو بأقل درجة - وعلى المنضدة المجاورة للفراش حيث مكان المصباح وقارورة المياه الحافظة للحرارة، وضع الوعاء النحاسي، وقد فاض بزهور رعي الحمام الرملي. كانت الزهور البديعة، مع التأثير المنعش للمياه في ساعة المساء، كعادتها تنكمش وتنشر في الأنحاء عبيرها الخفيف الرقيق، أجمل عطر لزهرة في عالم الزهور بأسره في رأي جيمي. تقدم جيمي وتناول الوعاء. ونظر أسفله. وتفحص المنضدة بحرص. ونظر في أنحاء الأرض. ورفع الوسادة. وبحث في أركان الحجرة الأربعة. فربما كانت هناك رسالة، وطيرتها بعيدا نفحة رياح. وبعد ذلك توجه مباشرة إلى مارجريت كاميرون.
وقد وجدها في الحديقة. فأخذ مقص تقليم الزرع من أصابعها واصطحبها إلى مقعد مصنوع من فروع الأشجار تحت غصون ظليلة لشجرة سنط كانت قبل بضعة أشهر مثل شلال من الذهب المتدفق، مثل الذهب السائل في انسكابه وتدفقه وانسيابه. ثم جلس بجانبها وقبض على يديها وحول وجهها نحوه.
وقال: «تعلمين يا مارجريت كم أنا ممتن لك على كل ما تفعلينه لي من أشياء تراعينني بها وتحنين بها علي كالأمهات، أفعال كريمة تشدين بها من أزري. من الوارد أن تكوني مدركة لما كان عليه منزل صباي من نظافة وحرص على طهارة لا يشوبها دنس. إنك تدركين كم أقدر وأستريح وأزداد بأسا وأشعر بتحسن مع رعاية المنزل على النحو الذي كانت ستتبعه أمي، لو لم يتوفها الله قبل رجوعي. أشعر أن منزلي أروع منزل في العالم كله اليوم. فلن أقايض به مقابل أي منزل لأي مليونير في أي مكان في ولاية كاليفورنيا. الكشافة الصغير محق في اعتقاده أنه من الممكن أن يشعر الإنسان بالرضا بما يمتلكه؛ فحسبه أن يكون لديه منزل وحديقة زهور وضمان قوت يومه. الحياة رائعة اليوم يا مارجريت، رائعة للغاية. فقد قضيت وقتا ممتعا مع كاري ونحله. لقد حسمت أمري وقررت أنه ما دام سيد النحل أراد أن أحصل على المنزل والحديقة، فسوف أحرص عليهما بقدر ما أراد حصولي عليهما. لم يكن ثمة شك مطلقا في رغبتي فيهما. وإنما كنت أشعر أنني قد أسطو على حقوق رجل آخر. أما إذا طرأ أنها امرأة التي سطوت على حقوقها، فبالطبع ...»
صفحة غير معروفة