مقدمة المؤلف قدس سره
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، وسلام على عباده الذين اصطفى، سيدنا محمد وآله الطاهرين.
جرى في مجلس الوزير السيد - أطال الله في العز الدائم بقاءه، وكبت (1) حساده وأعداءه - كلام (2) في غيبة (صاحب الزمان) (3) ألممت بأطرافه؛ لأن الحال لم تقتض الاستقصاء والاستيفاء، ودعاني ذلك إلى إملاء كلام وجيز فيها يطلع به على سر هذه المسألة، ويحسم مادة الشبهة المعترضة فيها، وإن كنت قد أودعت الكتاب الشافي في الإمامة وكتابي في تنزيه الأنبياء والأئمة (عليهم السلام) من الكلام في الغيبة (4) ما فيه كفاية
صفحة ٣١
وهداية لمن أنصف من نفسه وانقاد لإلزام الحجة، ولم يحر تحير[ا] عاندا عن المحجة(5).
فأولى الأمور وأهمها: عرض الجواهر على منتقدها، والمعاني على السريع إلى إدراكها، الغائص بثاقب فطنته إلى أعماقها، فطالما أخرس عن علم، وأسكت عن حجة، عدم من يعرض عليه، وفقد من تهدى إليه، وما متكلف(6) نظما أو نثرا عند من لا يميز بين السابق واللاحق(7) والمجلي والمصلي(8) إلا كمن خاطب جمادا أو حاور مواتا(9).
وأرى من سبق هذه الحضره العالية - أدام الله أيامها - إلى أبكار المعاني، واستخراجها من غوامضها، وتصفيتها من شوائبها، وترتيبها في أماكنها، ما ينتج(10) الأفكار العقيمة، ويذكي(11) القلوب البليدة، ويحلي
صفحة ٣٢
العلوم والآداب في أفواه من أمرت (12) في لهواته(13)، وشحطت(14) عن خطواته، وشق عليه ارتقاؤها واعتلاؤها.
فصار أكبر حظ العالم والأديب وأسعد أحواله أن ترضى منه فضيلة اكتسبها ومنقبة دأب لها، وأن ينتقدها عليه ناقد الفضائل(15) فلا يبهرجها(16) ويزيفها، وأن تنفق في السوق التي لا ينفق فيها الثمين(17) ولا يكسد فيها إلا المهين.
ونسأل الله تعالى في هذه النعمة الدوام، فهي أكبر وأوفرمن الاستضافة إليها والاستظهار بغيرها، وهو ولي الإجابة برحمته.
وإني لأرى من اعتقاد مخالفينا: «صعوبة الكلام في الغيبة(18) وسهولته علينا(19)،وقوته في جهتهم، وضعفه من جهتنا» عجبا!
والامر بالضد من ذلك وعكسه عند التأمل الصحيح، لأن الغيبة فرع لأصول متقدمة، فإن صحت تلك الأصول بأدلتها، وتقررت بحجتها، فالكلام في الغيبة أسهل شيء وأقربه وأوضحه، لأنها تبتني على
صفحة ٣٣
تلك الأصول وتترتب عليها، فيزول الإشكال.
وإن كانت تلك الأصول غير صحيحة ولا ثابتة، فلا معنى للكلام في الغيبة قبل إحكام أصولها، فالكلام فيها من غير تمهيد تلك الأصول عبث وسفه.
فإن كان المخالف لنا يستصعب(20) ويستبعد الكلام في الغيبة قبل الكلام في وجوب الإمامة في كل عصر وصفات الإمام، فلا شك في أنه صعب، بل معوز متعذر لا يحصل منه إلا على السراب.
وإن كان (له مستصعبا)(21) مع تمهد تلك الأصول وثبوتها، فلا صعوبة ولا شبهة، فإن الأمر ينساق سوقا إلى الغيبة ضرورة إذا تقررت أصول الإمامة.
[أصلان موضوعان للغيبة الإمامة، والعصمة]
وبيان هذه الجملة:
إن العقل قد دل على وجوب الإمامة، وإن كل زمان - كلف فيه المكلفون الذين يجوز منهم القبيح(22) والحسن، والطاعة والمعصية - لايخلو من إمام، وأن خلوه من إمام إخلال بتمكينهم، وقادح في حسن تكليفهم.
ثم دل العقل على أن ذلك الإمام لا بد من كونه معصوما من الخطأ
صفحة ٣٤
والزلل، مأمونا منه فعل كل قبيح.
وليس بعد ثبوت هذين الأصلين (إلا إمامة)(23) من تشير الإمامية إلى إمامته، فإن الصفة التي دل العقل على وجوبها لا توجد إلا فيه، ويتعرى منها كل من تدعى له الإمامة سواه، وتنساق الغيبة بهذا سوقا حتى لا تبقى شبهة فيها.
وهذه الطريقة أوضح ما اعتمدعليه في ثبوت إمامة صاحب الزمان، وأبعد من الشبهة.
فإن النقل بذلك وإن كان في الشيعة فاشيا، والتواتر به ظاهرا، ومجيؤه من كل طريق معلوما، فكل ذلك يمكن دفعه وإدخال الشبهة (فيه، التي يحتاج في حلها إلى ضروب من التكليف.
والطريقة التي أوضحناها)(24) بعيدة من الشبهات، قريبة من الأفهام.
وبقي أن ندل على صحة الأصلين اللذين ذكرناهما:
[أصل وجوب الإمامة]
أما الذي يدل على وجوب إلامامة في كل زمان: فهو مبني على الضرورة، ومركوز في العقول الصحيحة، فإنا نعلم علما - لا طريق للشك عليه ولا مجال - أن وجود الرئيس المطاع المهيب مدبرا و(25) متصرفا أردع عن
صفحة ٣٥
القبيح وأدعى إلى الحسن، وأن التهارج بين الناس والتباغي إما أن يرتفع عند وجود من هذه صفته من الرؤساء، أو يقل وينزر، وأن الناس عند الإهمال وفقد الرؤساء وعدم الكبراء يتتابعون في القبيح وتفسد أحوالهم وينحل(26) نظامهم.
وهذا أظهر وأشهر من أن يدل عليه، والإشارة فيه كافية(27).
وما يسأل عن هذا الدليل من الأسئلة قد استقصيناه وأحكمناه في الكتاب الشافي(28) فليرجع فيه إليه عند الحاجة.
[أصل وجوب العصمة]
(وأما الذي يدل على وجوب عصمة الإمام (29) فهو: أن علة الحاجة إلى الإمام هي أن يكون لطفا للرعية في الامتناع من القبيح وفعل الواجب على ما اعتمدناه ونبهنا عليه.
فلا يخلو من أن تكون علة الحاجة إليه ثابتة فيه، أو تكون مرتفعة عنه.
فإن كانت موجودة فيه فيجب أن يحتاج إلى إمام كما أحتيج إليه؛ لأن علة الحاجة لا يجوز أن تقتضيها في موضع دون آخر؛ لأن ذلك ينقض كونها علة:
صفحة ٣٦
والقول في إمامه (30) كالقول فيه في القسمة التي ذكرناها.
وهذا يقتضي إما الوقوف على إمام ترتفع عنه علة الحاجة، أو وجود أئمة لا نهاية لهم وهو محال.
فلم يبق بعد هذا إلا أن علة الحاجة إليه مفقودة فيه، ولن يكون ذلك إلا وهو معصوم ولا يجوز عليه فعل القبيح(31).
والمسائل - أيضا - على هذا الدليل مستقصى جوابها بحيث تقدمت الإشارة إليه(32).
[بناء الغيبة على الإصلين والفرق الشيعية البائدة]
وإذا ثبت هذان الأصلان: فلا بد من إمامة صاحب الزمان بغيبته.
ثم لا بد - مع فقد تصرفه وظهوره - من القول بغيبته.
فإن قيل: كيف تدعون أن ثبوت الأصلين اللذين ذكرتموهما يثبت أمامة صاحبكم بعينه، ويجب القول بغيبته؟! وفي الشيعة الإمامية - أيضا - من يدعي إمامة من له الصفتان اللتان ذكرتموهما وإن خالفكم في إمامة صاحبكم؟!
كالكيسانية(33): القائلين بإمامة محمد بن الحنفية، وأنه صاحب
صفحة ٣٧
الزمان، وإنما(34) غاب في جبال رضوى(35) انتظارا للفرصة وإمكانها، كما تقولون في قائمكم(36).
وكالناووسية(37): القائلين بأن المهدي (المنتظر أبو عبدالله جعفر بن محمد (عليهما السلام).
ثم الواقفة (38) القائلين بأن المهدي المنتظر)(39) موسى بن جعفر(عليها السلام)؟!
قلنا: كل من ذكرت لا يلتفت إلى قوله ولا يعبأ بخلافه؛ لأنه دفع ضرورة وكابر مشاهدة.
لأن العلم بموت ابن الحنفية كالعلم بموت أبيه وإخوته(40) صلوات الله عليهم.
صفحة ٣٨
وكذلك العلم بوفاة(41) الصادق (عليه السلام) كالعلم بوفاة أبيه محمد (عليه السلام).
والعلم بوفاة موسى (عليه السلام) كالعلم بوفاة كل متوفى(42) من آبائه وأجداده وأبنائه (عليهم السلام).
فصارت موافقتهم في صفات الإمام غير نافعة مع دفعهم الضرورة وجحدهم العيان.
وليس يمكن أن يدعى: أن الإمامية القائلين بإمامة ابن الحسن (عليهما السلام) قد دفعوا - أيضا - عيانا، في ادعائهم ولادة من علم فقده وأنه لم يولد!
وذلك أنه لا ضرورة في نفي ولادة صاحبنا (عليه السلام)، ولا علم، بل(43) ولا ظن صحيحا.
ونفي ولادة الأولاد من الباب الذي لا يصح أن يعلم ضرورة، في موضع من المواضع، وما يمكن أحدا أن يدعي فيمن لم يظهر له ولد (أنه يعلم ضرورة أنه لا ولد له) (44)وإنما يرجع ذلك إلى الظن والأمارة، وأنه لو كان له ولد لظهر أمره وعرف خبره.
وليس كذلك وفاة الموتى، فإنه من الباب الذي يصح أن يعلم ضرورة حتى يزول الريب فيه.
صفحة ٣٩
الا ترى: أن من شاهدناه حيا متصرفا، ثم رأيناه بعد ذلك صريعا طريحا، فقدت حركات عروقه وظهرت دلائل تغيره وانتفاخه، نعلم(45) يقينا أنه ميت.
ونفي وجود الأولاد بخلاف هذا الباب.
على أنا لو تجاوزنا - في الفصل(46) بيننا وبين من ذكر في السؤال - عن دفع المعلوم، لكان كلامنا واضحا؛ لأن جميع من(47) ذكر من الفرق قد سقط خلافه بعدم عينه وخلوالزمان من قائل بمذهبه:
أما الكيسانية فما رأينا قط منهم أحدا، ولا عين لهذا القول ولا أثر.
وكذلك الناووسية.
وأما الواقفة فقد رأينا منهم نفرا شذاذا جهالا لايعد مثلهم خلافا، ثم انتهى الأمر في زماننا هذا وما يليه إلى الفقد الكلي، حتى لا يوجد هذا المذهب - إن وجد - إلا في اثنين أو ثلاثة على صفة من قلة الفطنة والغباوة يقطع بها على الخروج من التكليف، فضلا أن يجعل قولهم خلافا يعارض به الإمامية الذين طبقوا البر والبحر والسهل والجبل في أقطار الأرض وأكنافها، ويوجد فيهم(48) من العلماء والمصنفين الألوف الكثيرة.
ولا خلاف بيننا وبين مخالفينا في أن الإجماع إنما يعتبر فيه الزمان الحاضر دون الماضي الغابر.
صفحة ٤٠
[انحصار الإمام في الغائب]
وإذا بطلت إمامة من أثبتت له الإمامة بالاختيار والدعوة(49) في هذا الوقت لأجل فقد الصفة التي دل العقل عليها (وبطل قول من راعى هذه الصفة في غير صاحبنا لشذوذه)(50) وانقراضه: فلا مندوحة عن مذهبنا، ولا بد من صحته، وإلا: خرج الحق عن جميع أقوال الأمة.
[علة الغيبة والجهل بها]
فأما(51) الكلام في علة الغيبة وسببها والوجه الذي يحسنها فواضح بعد تقرر ما تقدم من الأصول:
لأنا إذا علمنا بالسياقة التي ساق إليها الأصلان المتقرران(52) في العقل: أن الإمام ابن الحسن (عليهما السلام) دون غيره، ورأيناه غائبا عن الأبصار: علمنا أنه لم يغب - مع عصمته وتعين فرض الإمامة فيه وعليه - إلا لسبب اقتضى ذلك، ومصلحة استدعته، وضرورة قادت إليه - وإن لم يعلم الوجه على التفصيل والتعيين - لأن ذلك مما لا يلزم علمه.
وجرى الكلام في الغيبة ووجهها وسببها - على التفصيل - مجرى العلم بمراد الله تعالى من الآيات المتشابهة في القرآن، التي ظاهرها بخلاف ما
صفحة ٤١
دلت عليه العقول، من جبر أو تشبيه أو غير ذلك.
فكما (53)أنا ومخالفينا لا نوجب العلم المفصل بوجوه هذه الآيات وتأويلها، بل نقول كلنا: إنا إذا علمنا حكمة الله تعالى، وإنه لا يجوز أن يخبر بخلاف ما هو عليه من الصفات، علمنا - على الجملة - أن لهذه الآيات وجوها صحيحة بخلاف ظاهرها تطابق مدلول أدلة العقل، وإن غاب عنا العلم بذلك مفصلا، فإنه لا حاجة بنا إليه، ويكفينا العلم على سبيل الجملة بأن المراد بها خلاف الظاهر، وأنه مطابق العقل.
فكذلك لا يلزمنا ولا يتعين علينا العلم بسبب الغيبة، والوجه في فقد ظهور الإمام على التفصيل والتعيين، ويكفينا في ذلك علم الجملة التي تقدم ذكرها، فإن تكلفنا وتبرعنا بذكره فهو فضل منا.
كما أنه من جماعتنا فضل وتبرع إذا تكلفنا ذكر وجوه المتشابه والأغراض فيه على التعيين.
[الجهل بحكمة الغيبة لا ينافيها]
ثم يقال للمخالف في الغيبة: (أتجوز أن يكون للغيبة)(54) وجه صحيح اقتضاها، ووجه من الحكمة استدعاها، أم لا تجوز ذلك؟
فإن قال: أنا لذلك مجوز.
قيل له: فإذا كنت له مجوا فكيف جعلت وجود الغيبة دليلا على أنه
صفحة ٤٢
لا إمام في الزمان، مع تجويزك أن يكون للغيبة سبب لا ينافي وجود الإمام؟!
وهل تجري في ذلك إلا مجرى من توصل بإيلام الأطفال إلى نفي حكمة الصانع تعالى، وهو معترف بأنه يجوز أن يكون في إيلامهم وجه صحيح لاينافي الحكمة.
أو مجرى من توصل بظواهر الآيات المتشابهات إلى أنه تعالى مشبه(55) للأجسام، وخالق لأفعال العباد، مع تجويزه أن يكون لهذه الآيات وجوه صحيحة لا تنافي العدل، والتوحيد، ونفي التشبيه.
وإن قال: لا أجوز أن يكون للغيبة سبب صحيح موافق للحكمة، وكيف أجوز ذلك وأنا أجعل الغيبة دليلاعلى نفي الإمام الذي تدعون غيبته؟!
قلنا: هذا تحجر منك شديد، فيما لا يحاط بعلمه ولا يقطع على مثله.
فمن أين قلت: إنه لا يجوز أن يكون للغيبة سبب صحيح يقتضيها؟!
ومن هذا الذي يحيط علما بجميع الأسباب والأغراض حتى يقطع على انتفائها؟!
وما الفرق بينك وبين من قال: لايجوز أن يكون للآيات المتشابهات وجوه صحيحة تطابق أدلة العقل، ولا بد من أن تكون على ما اقتضته ظواهرها؟!
صفحة ٤٣
فإن قلت: الفرق بيني وبين من ذكرتم أنني أتمكن من أن أذكر وجوه هذه الآيات المتشابهات ومعانيها الصحيحة، وأنتم لا تتمكنون من ذكر سبب صحيح للغيبة!
قلنا: هذه المعارضة إنما وجهناها على من يقول: /(56) إنه غير محتاج إلى العلم على التفصيل بوجوه الآيات المتشابهات وأغراضها، وإن التعاطي لذكر هذه الوجوه فضل وتبرع، وإن الكفاية واقعة بالعلم بحكمة القديم تعالى، وإنه لايجوز أن يخبر عن نفسه بخلاف ما هو عليه.
والمعارضة على هذا المذهب لازمة.
[لزوم المحافظة على أصول البحث]
فأما من جعل الفرق بين الأمرين ما حكيناه في السؤال من «تمكنه من ذكر وجوه الآيات المتشابهات، فإنا لا نتمكن من ذلك»!
فجوابه أن يقال له: قد تركت - بما صرت إليه - مذاهب شيوخك وخرجت عما اعتمدوه، وهو الصحيح الواضح اللائح.
وكفى بذلك عجزا ونكولا.
وإذا قنعت لنفسك بهذا الفرق - مع بطلانه ومنافاته لأصول الشيوخ - كلناعليك مثله، وهو:
أنا نتمكن - أيضا - أن نذكر في الغيبة الأسباب الصحيحة، والأغراض الواضحة، التي لا تنافي الحكمة، ولا تخرج عن حدها،
صفحة ٤٤
وسنذكر ذلك فيما يأتي من الكلام - بمشيئة الله وعونه - فقد ساويناك وضاهيناك بعد أن نزلنا على اقتراحك وإن كان باطلا.
ثم يقال له: كيف يجوز أن تجتمع صحة إمامة ابن الحسن (عليهما السلام) بما بيناه من سياقة الأصول العقلية إليها، مع القول بأن الغيبة لا يجوز أن يكون لها سبب صحيح يقتضيها؟!
أوليس هذا تناقضا ظاهرا، وجاريا في الاستحالة مجرى اجتماع القول بالعدل والتوحيد مع القطع على أنه لا يجوز أن يكون للآيات - الواردة ظواهرها بما يخالف العدل والتوحيد - تأويل صحيح، ومخرج سديد يطابق ما دل عليه العقل؟!
أو لا تعلم: أن ما دل عليه العقل وقطع به على صحته يقود ويسوق إلى القطع على أن للآيات مخرجا صحيحا وتأويلأ للعقل مطابقا، وإن لم نحط علما به، كما يقود ويسوق إلى أن للغيبة وجوها وأسبابا صحيحة، وإن لم نحط بعلمها؟!
[تقدم الكلام في الأصول على الكلام في الفروع]
فإن قال: (أنا لا أسلم)(57) ثبوت أمامة ابن الحسن وصحة طريقها، ولو سلمت ذلك لما خالفت في الغيبة، لكنني أجعل الغيبة - وأنه لا يجوز أن يكون لها سبب صحيح - طريقا إلى نفي ما تدعونه من إمامة ابن الحسن.
صفحة ٤٥
قلنا: إذا لم تثبت لنا إمامة ابن الحسن (عليهما السلام) فلا كلام لنا في الغيبة؛ لأنا إنما نتكلم في سبب غيبة من ثبتت إمامته وعلم وجوده، والكلام في وجوه غيبة من ليس بموجود هذيان.
وإذا لم تسلموا إمامة ابن الحسن، جعلنا الكلام معكم في صحة إمامته، واشتغلنا بتثبيتها وإيضاحها، فإذا زالت الشبهة فيها ساغ الكلام حينئذ في سبب الغيبة؛ وإن لم تثبت لنا إمامته وعجزنا عن الدلالة على صحتها، فقد بطل قولنا بإمامة ابن الحسن (عليهما السلام)، واستغنى - معنا - عن كلفة الكلام في سبب الغيبة.
ويجري هذا الموضع من الكلام مجرى من سألنا عن إيلام الأطفال، أو وجوه الآيات المتشابهات، وجهات المصالح في رمي الجمار، والطواف بالبيت، وما أشبه ذلك من العبادات على التفصيل والتعيين.
وإذا عولنا في الأمرين على حكمة القديم تعالى، وأنه لا يجوز أن يفعل قبيحا، ولا بد من وجه حسن في جميع ما فعله، وإن جهلناه بعينه، وأنه تعالى لا يجوز أن يخبر بخلاف ما هو عليه، ولا بد - فيما ظاهره يقتضي خلاف ما هو تعالى عليه - من أن يكون له وجه صحيح، وإن لم نعلمه مفصلا.
قال لنا: ومن سلم لكم حكمة القديم، وأنه لا يفعل القبيح؟! وإنا إنما جعلنا(58) الكلام في سبب إيلام الأطفال ووجوه الآيات المتشابهات وغيرها طريقا إلى نفي ما تدعونه من نفي القبيح عن أفعاله تعالى.
فكما أن جوابنا له: أنك إذا لم تسلم حكمة القديم تعالى دللنا
صفحة ٤٦
عليها، ولم يجز أن نتخطاها إلى الكلام في أسباب أفعاله.
فكذلك الجواب لمن كلمنا في الغيبة وهو لا يسلم إمامة صاحب الزمان وصحة أصولها.
[لا خيار في الاستدلال على الفروع قبل الأصول]
فإن قيل: ألا كان السائل بالخيار بين أن يتكلم في إمامة ابن الحسن (عليهما السلام) ليعرف صحتها من فسادها، وبين أن يتكلم في سبب الغيبة، فإذا بان أنه لا سبب صحيحا لها انكشف بذلك بطلان إمامته؟
قلنا: لا خيار في مثل ذلك؛ لأن من شك في إمامة ابن الحسن (عليهما السلام) يجب أن يكون الكلام معه في نفس إمامته، والتشاغل في جوابه بالدلالة عليها، ولا يجوز مع هذا الشك - وقبل ثبوت هذه الإمامة - أن يتكلم(59) في سبب الغيبة؛ لأن الكلام في الفروع لا يسوغ إلا بعد إحكام الأصول.
ألا ترى: أنه لا يجوز أن يتكلم في سبب إيلام الأطفال إلا بعد الدلالة على حكمته تعالى، وأنه لا يفعل القبيح، وكذلك القول في الآيات المتشابهات.
ولا خيار لنا في هذه المواضع.
صفحة ٤٧
[اعتماد شيوخ المعتزلة على هذه الطريقة]
ومما يبين صحة /(60) هذه الطريقة ويوضحها: أن الشيوخ كلهم لما عولوا- في إبطال ما تدعيه اليهود: من تأبيد شرعهم وأنه لا ينسخ ما دام الليل والنهار، على ما يرونه، ويدعون: أن موسى (عليه السلام) قال: «إن شريعته لا تنسخ» - على أن نبينا عليه وآله أفضل الصلاة والسلام - وقد قامت دلائل نبوته، ووضحت بينات صدقه - أكذبهم في هذه الرواية، وذكر أن شرعه ناسخ لكل شريعة تقدمته.
سألوا(61) نفوسهم - لليهود - فقالوا: أي فرق بين أن تجعلوا دليل النبوة مبطلأ لخبرنا في نفي النسخ للشرع، وبين أن نجعل صحة الخبر بتأبيد الشرع، وأنه لا ينسخ، قاضيا على بطلان النبوة؟!
ولم تنقلوننا عن الكلام في الخبر وطرق صحته إلى الكلام في معجز النبوة، ولم يجز أن تنقلكم عن الكلام في النبوة ومعجزها إلى الكلام في الخبر وصحته؟!
أو ليس كل واحد من الأمرين إذا ثبت قضى على صاحبه؟!
فأجابوهم عن هذا السؤال ب: أن الكلام في معجز النبوة أولى من الكلام في طريق صحة الخبر؛ لأن المعجز معلوم وجوده ضرورة وهو القرآن، ومعلوم صفته في الإعجاز بطريق عقلي لا يمكن دخول الاحتمال فيه والتجاذب والتنازع.
صفحة ٤٨
وليس كذلك الخبر الذي تدعونه؛ لأن صحته تستند إلى أمور غير معلومة ولا ظاهرة ولا طريق إلى علمها؛ لأن الكثرة التي لا يجوز عليهم التواطؤ لابد من إثباتهم في رواية هذا الخبر، في أصله وفرعه، وفيما بيننا وبين موسى (عليه السلام)، حتى يقطع على أنهم ما انقرضوا في وقت من الأوقات ولا قلوا، وهذا مع بعد العهد وتراخي الزمان محال إدراكه والعلم بصحته.
قضوا (62) حينئذ على أن الكلام في معجز النبوة - حتى إذا صح، قطع به على بطلان الخبر - أولى من الكلام في الخبر والتشاغل به.
[استعمال هذه الطريقة في المجادلات بطريق أولى]
وهذا الفرق يمكن أن يستعمل بيننا وبين من قال: كلموني في سبب إيلام الأطفال قبل الكلام في حكمة القديم تعالى، حتى إذا بان أنه لا وجه يحسن هذه الآلام بطلت الحكمة، أو قال بمثله في الآيات المتشابهات.
وبعد، فإن حكمة القديم تعالى في وجوب تقدم الكلام فيها على أسباب الأفعال، ووجوه تأويل الكلام، بخلاف ما قد بيناه في نسخ الشريعة ودلالة(63) المعجز:
لأن حكمة القديم تعالى أصل في نفي القبيح(64) عن أفعاله،
صفحة ٤٩
والأصل لا بد من تقدمه لفرعه(65).
وليس كذلك الكلام في النبوة (والخبر؛ لأنه ليس أحدهما أصلا لصاحبه، وإنما رجح الشيوخ الكلام في النبوة) (66) على الخبر، وطريقه: من الوجه الذي ذكرناه، وبينوا أن أحدهما محتمل مشبته، والآخر واضح يمكن التوصل - بمجرد دليل العقل - إليه.
[الكلام في الإمامة أصل للغيبة]
والكلام في الغيبة مع الكلام في إمامة صاحب الزمان (عليه السلام) يجري - في أنه أصل وفرع - بمجرى الكلام في إيلام الأطفال، وتأويل المتشابه، والكلام في حكمة القديم تعالى، فواجب تقدم الكلام في إمامته على الكلام في سبب غيبته من حيث الأصل والفرع اللذان ذكرناهما في سبب إيلام الأطفال وغيره.
[مزية في استعمال تلك الطريقة في بحث الغيبة]
ثم يجب تقدمه من وجه الترجيح والمزية على ما ذكره الشيوخ في الفرق بين الكلام في النبوة والكلام في طريق خبر نفي النسخ؛ لأنه من المعلوم.
صفحة ٥٠