بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على محمد وآله وصحبه (1)
رب زدني علما، ووفق يا كريم
أما بعد (2)
قال الشيخ الإمام العالم العلامة، الرحلة المحقق (3) ، بحر الفوائد، ومعدن الفرائد، عمدة الحفاظ والمحدثين، وعدة الأئمة المحققين (4) ، وآخر المجتهدين: شمس الدين محمد بن أحمد (5) بن عثمان الذهبي الدمشقي، رحمه الله ونفعنا بعلومه وجميع المسلمين:
صفحة ٢٣
(1) الحديث الصحيح:
هو ما دار على: عدل (1) ، متقن، واتصل سنده. فإن كان مرسلا، ففي الاحتجاج به اختلاف. وزاد أهل الحديث: سلامته من الشذوذ، والعلة. وفيه نظر على مقتضى نظر الفقهاء، فإن كثيرا من العلل يأبونها.
فالمجمع على صحته إذا: المتصل، السالم من الشذوذ، والعلة. وأن يكون رواته: ذوي ضبط، وعدالة، وعدم تدليس.
فأعلى مراتب المجمع عليه:
- مالك، عن نافع، عن ابن عمر. أو:
- منصور، عن (2) إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله.
صفحة ٢٤
أو: - الزهري، عن سالم، عن (1) أبيه. أو:
- أبو الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة.
ثم بعده:
- معمر، عن همام، عن أبي هريرة. أو:
- ابن أبي عروبة، عن قتادة، عن أنس. أو:
- ابن جريج، عن عطاء، عن جابر، وأمثاله.
ثم بعده في المرتبة:
- الليث وزهير، عن أبي الزبير، عن جابر. أو:
- سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس.
صفحة ٢٥
أو: - أبو بكر بن عياش، عن أبي إسحاق، عن البراء. أو:
- العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة.
ونحو ذلك من أفراد البخاري أو مسلم.
(2) الحسن:
وفي تحرير معناه اضطراب. فقال الخطابي رحمه الله: "هو ما عرف مخرجه واشتهر رجاله، وعليه مدار أكثر الحديث. وهو الذي يقبله أكثر العلماء، ويستعمله عامة الفقهاء". وهذه عبارة ليست على صناعة الحدود والتعريفات، إذ الصحيح ينطبق ذلك عليه أيضا! لكن مراده: مما لم يبلغ درجة الصحيح.
فأقول: الحسن ما ارتقى عن درجة
الضعيف،
ولم يبلغ درجة الصحة.
صفحة ٢٦
وإن شئت قلت: "الحسن ما سلم من ضعف الرواة"، فهو حينئذ داخل في قسم الصحيح. وحينئذ يكون الصحيح مراتب كما قدمناه، والحسن ذا رتبة دون تلك المراتب، فجاء الحسن مثلا في آخر مراتب الصحيح.
وأما الترمذي ، فهو أول من خص هذا النوع باسم (الحسن) . وذكر أنه يريد به: أن يسلم راويه من أن يكون متهما، وأن يسلم من الشذوذ، وأن يروى نحوه من غير وجه. وهذا مشكل أيضا على ما يقول فيه: (حسن، غريب، لا نعرفه إلا من هذا الوجه) .
وقيل: الحسن ما ضعفه محتمل، ويسوغ العمل به. وهذا أيضا ليس مضبوطا بضابط يتميز به الضعف المحتمل.
صفحة ٢٧
وقال ابن الصلاح رحمه الله: "إن الحسن قسمان (1) :
أحدهما: ما لا يخلو سنده من مستور لم تتحقق أهليته، لكنه غير مغفل، ولا خطاء، ولا متهم. ويكون المتن مع ذلك عرف مثله أو نحوه من وجه آخر اعتضد به.
وثانيهما: أن يكون راويه مشهورا بالصدق والأمانة، لكنه لم يبلغ درجة رجال الصحيح، لقصوره عنهم في الحفظ والإتقان. وهو مع ذلك يرتفع عن حال من يعد تفرده منكرا، مع عدم الشذوذ والعلة".
فهذا عليه مؤاخذات. وقد قلت لك: إن الحسن ما قصر سنده قليلا عن رتبة الصحيح، وسيظهر لك بأمثلة.
ثم لا تطمع بأن للحسن (2) قاعدة تندرج كل الأحاديث الحسان فيها، فأنا على إياس من ذلك! فكم من حديث تردد فيه الحفاظ: هل هو حسن؟ أو ضعيف؟ أو صحيح؟ بل الحافظ الواحد يتغير اجتهاده
صفحة ٢٨
في الحديث الواحد: فيوما يصفه بالصحة، ويوما يصفه بالحسن، ولربما استضعفه!
وهذا حق، فإن الحديث الحسن يستضعفه الحافظ عن أن يرقيه إلى رتبة (1) الصحيح. فبهذا الاعتبار فيه ضعف ما، إذ الحسن لا ينفك عن ضعف ما. ولو انفك عن ذلك، لصح باتفاق.
وقول الترمذي: (هذا حديث حسن، صحيح) عليه إشكال: بأن الحسن قاصر عن الصحيح، ففي الجمع بين السمتين لحديث واحد مجاذبة! وأجيب عن هذا بشيء لا ينهض أبدا، وهو أن ذلك راجع إلى الإسناد: فيكون قد روي بإسناد حسن، وبإسناد صحيح. وحينئذ لو قيل: (حسن، صحيح، لا نعرفه إلا من هذا الوجه) ، لبطل هذا الجواب!
وحقيقة ذلك - أن لو كان كذلك - أن يقال: (حديث حسن وصحيح) . فكيف العمل في حديث يقول فيه: (حسن، صحيح،
صفحة ٢٩
لا نعرفه إلا من هذا الوجه) ؟ فهذا يبطل قول من قال: أن يكون ذلك بإسنادين.
ويسوغ أن يكون مراده بالحسن: المعنى اللغوي لا الاصطلاحي، وهو إقبال النفوس وإصغاء الأسماع إلى حسن متنه، وجزالة لفظه، وما فيه من الثواب والخير. فكثير من المتون النبوية بهذه المثابة.
قال شيخنا ابن وهب: فعلى هذا، يلزم إطلاق الحسن على
صفحة ٣٠
بعض الموضوعات! ولا قائل بهذا. ثم قال: "فأقول: لا يشترط في الحسن قيد القصور عن الصحيح، وإنما جاء القصور إذا اقتصر على: (حديث حسن) . فالقصور يأتيه من قيد الاقتصار، لا من حيث حقيقته وذاته". ثم قال: "فللرواة صفات تقتضي قبول الرواية، ولتلك الصفات درجات بعضها فوق بعض، كالتيقظ والحفظ والإتقان. فوجود الدرجة الدنيا، كالصدق مثلا وعدم التهمة، لا ينافيه
صفحة ٣١
وجود ما هو أعلى منه من الإتقان والحفظ. فإذا وجدت الدرجة العليا، لم يناف ذلك وجود الدنيا كالحفظ مع الصدق. فصح أن يقال: (حسن) باعتبار الدنيا، (صحيح) باعتبار العليا. ويلزم على ذلك أن يكون كل صحيح حسنا، فيلتزم ذلك. وعليه عبارات المتقدمين، فإنهم يقولون فيما صح: (هذا حديث حسن) ".
قلت: فأعلى مراتب الحسن:
- بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده. و:
- عمرو (1) بن شعيب، عن أبيه، عن جده. و:
- محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة. و:
صفحة ٣٢
- ابن إسحاق، عن محمد بن إبراهيم التيمي. وأمثال ذلك.
وهو قسم متجاذب بين الصحة والحسن. فإن عدة من الحفاظ يصححون هذه الطرق، وينعتونها بأنها من أدنى مراتب الصحيح.
ثم بعد ذلك، أمثلة كثيرة يتنازع فيها: بعضهم يحسنونها، وآخرون يضعفونها. كحديث الحارث بن عبد الله، وعاصم بن ضمرة، وحجاج بن أرطاة، وخصيف، ودراج أبي السمح، وخلق سواهم.
(3) الضعيف:
ما نقص عن درجة الحسن قليلا. ومن ثم، تردد في حديث أناس: هل بلغ حديثهم إلى درجة الحسن أم لا؟ وبلا ريب، فخلق كثير من المتوسطين في الرواية بهذه المثابة. فآخر مراتب الحسن هي أول مراتب الضعيف، أعني الضعيف الذي في "السنن" وفي كتب الفقهاء، ورواته
صفحة ٣٣
ليسوا بالمتروكين: كابن لهيعة، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وأبي بكر بن أبي مريم الحمصي، وفرج بن فضالة، ورشدين، وخلق كثير.
(4) المطروح:
ما انحط عن رتبة الضعيف.
صفحة ٣٤
ويروى في: بعض المسانيد الطوال، وفي الأجزاء، بل (1) وفي "سنن ابن ماجه" و "جامع أبي عيسى". مثل:
- عمرو بن شمر، عن جابر الجعفي، عن الحارث، عن علي. وك:
- صدقة الدقيقي، عن فرقد السبخي، عن مرة الطيب، عن أبي بكر. و:
- جويبر، عن الضحاك، عن ابن عباس. و:
- حفص بن عمر العدني، عن الحكم بن أبان، عن عكرمة.
وأشباه ذلك من المتروكين والهلكى، وبعضهم أفضل من بعض.
صفحة ٣٥
(5) الموضوع:
ما كان متنه مخالفا للقواعد، وراويه كذابا، ك: "الأربعين الودعانية"، وك: "نسخة علي الرضا" المكذوبة عليه. وهو مراتب، منه:
- ما اتفقوا على أنه كذب. ويعرف ذلك بإقرار واضعه، وبتجربة الكذب منه، ونحو ذلك. ومنه:
- ما الأكثرون على أنه موضوع. والآخرون يقولون: هو حديث ساقط مطروح، ولا نجسر أن نسميه موضوعا. ومنه:
- ما الجمهور على وهنه وسقوطه، والبعض على أنه كذب.
ولهم في نقد ذلك طرق متعددة، وإدراك قوي تضيق عنه
صفحة ٣٦
عباراتهم. من جنس ما يؤتاه الصيرفي الجهبذ في نقد الذهب والفضة، أو الجوهري لنقد الجواهر والفصوص لتقويمها.
فلكثرة ممارستهم للألفاظ النبوية، إذا جاءهم لفظ ركيك - أعني مخالفا للقواعد - أو فيه المجازفة في الترغيب والترهيب، أو الفضائل، وكان بإسناد مظلم، أو إسناد مضيء كالشمس في أثنائه رجل كذاب أو وضاع: فيحكمون بأن هذا مختلق، ما قاله رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وتتواطأ أقوالهم فيه على شيء واحد.
وقال شيخنا ابن دقيق العيد: "إقرار الراوي بالوضع في رده، ليس بقاطع في كونه موضوعا، لجواز أن يكذب في الإقرار".
قلت: هذا فيه بعض ما فيه، ونحن لو فتحنا باب التجويز والاحتمال البعيد، لوقعنا في الوسوسة والسفسطة!
صفحة ٣٧
نعم، كثير من الأحاديث التي وسمت بالوضع لا دليل على وضعها، كما أن كثيرا من الموضوعات لا نرتاب في كونها موضوعة.
(6) المرسل:
علم على ما سقط ذكر الصحابي من إسناده، فيقول التابعي: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ويقع في المراسيل الأنواع الخمسة الماضية. فمن صحاح المراسيل:
صفحة ٣٨
- مرسل سعيد بن المسيب. و:
- مرسل مسروق. و:
- مرسل الصنابحي. و:
- مرسل قيس بن (1) أبي حازم. ونحو ذلك.
فإن المرسل إذا صح إلى تابعي كبير، فهو حجة عند خلق من الفقهاء. فإن كان في الرواة ضعيف إلى مثل ابن المسيب، ضعف الحديث من قبل ذلك الرجل. وإن كان متروكا أو ساقطا، وهن الحديث وطرح.
ويوجد في المراسيل موضوعات. نعم، وإن صح الإسناد إلى تابعي متوسط الطبقة، كمراسيل:
صفحة ٣٩
مجاهد، وإبراهيم، والشعبي. فهو مرسل جيد لا بأس به، يقبله قوم ويرده آخرون.
ومن أوهى المراسيل عندهم: مراسيل الحسن. وأوهى من ذلك: مراسيل الزهري، وقتادة، وحميد الطويل، من صغار التابعين. وغالب المحققين يعدون مراسيل هؤلاء معضلات ومنقطعات، فإن غالب روايات هؤلاء عن تابعي كبير، عن صحابي. فالظن بمرسله (1) أنه أسقط من إسناده اثنين.
(7) المعضل:
هو ما سقط من إسناده اثنان فصاعدا. وكذلك:
(8) المنقطع:
فهذا النوع قل من احتج به.
صفحة ٤٠
وأجود ذلك ما قال فيه مالك: "بلغني أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: كذا وكذا". فإن مالكا متثبت، فلعل بلاغاته أقوى من مراسيل مثل: حميد، وقتادة.
(9) الموقوف:
هو ما أسند إلى صحابي من قوله أو فعله. ومقابله:
(10) المرفوع:
وهو ما نسب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - من قوله أو فعله.
صفحة ٤١
(11) المتصل
(1) :
ما اتصل سنده، وسلم من الانقطاع. ويصدق ذلك على المرفوع، والموقوف.
(12) المسند:
هو ما اتصل سنده بذكر النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقيل: يدخل في المسند كل ما ذكر فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - وإن كان في أثناء سنده انقطاع.
(13) الشاذ:
هو ما خالف راويه الثقات، أو ما انفرد به من لا يحتمل حاله قبول تفرده.
(14) المنكر:
وهو ما انفرد الراوي الضعيف به. وقد يعد مفرد الصدوق منكرا.
صفحة ٤٢