المقدمات
لا أظن أن التنبؤ بالمسار الذي سيتخذه التاريخ، حتى على المدى القريب، كان في وقت من الأوقات أصعب مما هو في اللحظة الراهنة. أقول هذا وأنا على وعي تام بأن الأساليب العلمية لتكوين صورة معقولة عن الأوضاع المستقبلية قد تقدمت في الآونة الأخيرة تقدما هائلا، حتى أصبح هناك علم قائم بذاته، هو «المستقبليات»، له أساتذته المتخصصون ودورياته العلمية ومعاهده ومؤتمراته، ويستعين بأحدث طرق البحث وأدق الحاسبات الإلكترونية، ومع ذلك فإن التحول الذي طرأ على العالم في الربع الأخير من العام الذي ودعناه أخيرا، قد خرج بحدة عن كل توقع، وقفز بعنف خارج كل إطار كان يوضع فيه المسار المحتمل للتاريخ. وأغلب الظن أن الصورة التي سيذكرها المؤرخون عن عقد الثمانينيات بأكمله سيكون أغلبها مستمدا مما حدث في الأشهر الثلاثة الأخيرة من عامه الأخير، كما أن أحداث عقد التسعينيات سوف تتحدد، إلى مدى بعيد، بما حدث في هذه الأشهر الثلاثة الحاسمة.
إن التاريخ، الذي كان يبدو في نظر إنسان النصف الثاني من القرن العشرين مستأنسا طيعا، يمكن حساب العوامل المتحكمة في تحولاته، واستشفاف مساراته المقبلة بقدر معقول من الدقة، يبدو اليوم، ونحن نستهل العقد الأخير من هذا القرن العجيب، أشبه بالحصان البري الجامح، في قفزاته العشوائية وانطلاقاته المفاجئة واستعصائه على لجام العقل.
لقد تنبه الكثيرون في الشرق والغرب، بعد التقلبات الأخيرة الصاخبة، إلى التشابه الواضح بين عام 1789م، عام الثورة الفرنسية، وعام 1989م، عام الثورة في المعسكر الاشتراكي، ووجدوا في كل من العامين مفترق طرق حاسما في تاريخ البشرية، ولكن هل خطر هذا التشابه ببال أحد ممن سجلوا على صفحات جرائد العام كله توقعاتهم عن العام الجديد، عند نهاية عام 1988م؟ وهل طاف هذا التشابه بذهن أحد في الوقت الذي كان فيه العالم يحتفل مع فرنسا، بمرور مائتي عام على ثورتها في شهر يوليو (تموز) الماضي؟ هل توقع أحد خلال هذه الاحتفالات التي لم يمض عليها سوى خمسة أشهر، أن تصبح للعالم خلال الشهور القليلة التالية صورة مختلفة تماما عن تلك التي اعتدناها، وبنينا عليها جميع تحليلاتنا وتوقعاتنا خلال السنوات الأربعين الماضية؟ وهل تخيل أحد ممن عرضت عليهم شاشات التلفزيون صورة تشاوشيسكو في نوفمبر الماضي، وهو يخطب في اجتماعه الحزبي الأخير، فيرفض في صلف وغرور وعناد كل التغييرات التي اجتاحت أوروبا الشرقية، ويستقبله ألوف الحاضرين (من يزعمون أنهم ممثلو الشعب) بالتصفيق الحاد عند كل مقطع في خطابه، والوقوف إجلالا عند دخوله وخروجه - أقول هل تخيل أحد عندئذ أن هذا الزعيم الجبار سيرتمي في الوحل، مع نظامه كله، ممزقا بالرصاص بعد أقل من أسبوعين في أعقاب ثورة شعبية بطولية ضحت بالكثير من أجل إزاحة الطاغية في زمن قياسي؟
كذا يبدو التاريخ، في أيامنا القليلة هذه، أشبه بنهر ظل يسير في مجراه هادئا، ثم تحول فجأة إلى شلال هادر يصم الآذان، ولا يملك كل من يقف يتأمل مجبرا التدفق الصاخب بعد هدوء طويل، إلا أن يوقن بأن مجراه لن يعود أبدا بعد هذا الشلال، مثلما كان.
إن الحيرة هي السمة المميزة لكل محاولات التحليل التي تقدم للوضع الراهن في العالم بعد الأحداث العاتية التي عصفت بنظامه المستقر منذ أربعين عاما. وحين يكتب أعقل العقلاء عن هذا الوضع العالمي الجديد، فإنه لا يستبعد احتمال حدوث شيء يقلب تحليلاته وتفسيراته رأسا على عقب في اليوم التالي لظهور مقاله. لقد حلت المفاجآت محل التوقعات، والدهشة محل التنبؤات، وانعدمت الرؤية حتى أمام من يملكون أعظم المعلومات وأدق أدوات التحليل.
ولكن، في قلب هذا التحول الخاطف الصاخب يقف رجل واحد في العالم لا يبدو عليه أي قدر من القلق إزاء ما يحدث، بل إن خصومه، الذين تبدو التغييرات وكأنها تسير في صالحهم، هم الذين يبذلون جهودا هائلة من أجل إخفاء توترهم وقلقهم، هذا الرجل هو ميخائيل جورباتشوف، الذي أسهم في تغيير عالمنا بأكثر مما أسهم به أي فرد آخر في التاريخ المعاصر. وعلى الرغم من أن المثقفين في جيلنا قد اعتادوا ألا يبالغوا في تضخيم دور الفرد في التاريخ، وظلوا يؤكدون دائما أن الصانع الحقيقي للتحولات الكبرى في مجرى العالم هو الجماهير، والقوانين الموضوعية التي تحكم تحركاتهم، وأن أي فرد مهما كانت مكانته لا يعدو أن يكون محصلة العوامل الاجتماعية الكبرى التي تتحكم في مسار التاريخ؛ على الرغم من هذا كله، فإن المرء لا يملك إلا أن يربط بين الثورة التاريخية الكبرى التي نعيش الآن أهم مراحلها، وبين شخص جورباتشوف على وجه التحديد، سواء نظرنا إليه على أنه فرد عبقري، أم على أنه تجسيد لقوى تاريخية أوسع نطاقا وأعمق تأصلا منه.
وليس أدل على ذلك من تلك المفارقة الغريبة التي نلمسها في تقييم خصومه له: فألد أعدائه، في أميركا وإنجلترا مثلا، يكيلون له المديح ويتغنون بحكمته وشجاعته، في نفس الوقت الذي يؤكدون فيه أنه هو الخاسر الأكبر، وأن النظام الذي ينتمي إليه قد انهار، وأن شعوبه قد اختارت التحول إلى النظام البديل.
ومعنى ذلك أن الإنسان المعاصر، سواء أكان ممن يعترفون بأن التحولات التاريخية في المعسكر الاشتراكي هي تحولات إيجابية، أو كان ممن يرون أنها تمثل النهاية الحتمية لهذا المعسكر ولكل المعركة الأيديولوجية بين الرأسمالية والشيوعية، يؤكد في الحالتين أن هذا الرجل بعينه هو الذي يلعب دور البطولة على مسرح الأحداث الحاسمة في عالم اليوم، ولكن السؤال الهام، والحاسم، يظل قائما: فإذا كان العالم كله يعترف لجورباتشوف بالفضل الأكبر - وربما الأوحد - في إدارة عجلة التاريخ نحو هذا المنعطف الحاسم، فهل كان دوره يقتصر على البدء في تحريك الأحداث، والسماح للتطورات بأن تسير في مجراها بحرية، دون تدخل من الدبابات السوفياتية التي منعت من قبل تحولات كثيرة داخل المعسكر الشيوعي، أم أن المسار الذي تتخذه الأحداث بعد هذه البداية العاصفة، هو أيضا من صنعه؟ هل كان جورباتشوف، مثل إله أرسطو، هو «المحرك الأول» للأحداث، ثم سارت هذه الأحداث بعد ذلك في طريقها الخاص دون تدخل منه، وأفلت زمامها من بين يديه، أم أنه، بعد أن أعطى إشارة الانطلاق الأولى، ما زال ممسكا بالدفة؟
إن العالم كله يعترف لجورباتشوف بالأمر الأول، أعني البدء في تحريك الأحداث التي أدت إلى تحول حاسم في التاريخ المعاصر، أما الأمر الثاني، أعني مدى تحكمه في المسار اللاحق لهذا التحول، فهو مدار خلاف كبير. من أصعب الأمور في اللحظة الراهنة، التي ترتفع فيها حرارة الأحداث إلى درجة الغليان، أن يتخذ المرء موقفا بين هذا الرأي وذاك؛ لأن وضوح الرؤية يحتاج إلى وقت حتى ينقشع ضباب التقلبات العنيفة والمفاجئة.
صفحة غير معروفة