كل هذا ليعرف الكاتب وآراءه ومؤلفاته، وبذلك أيضا يتوصل إلى صلة ذلك بأسباب عامة تتصل بالمدنية العامة.
مذهب «تين» في النقد
نجد في الرجال الأبيض والأسود، والأصفر والأحمر، ونجد فيهم الذكي والغبي، ونجد النشيط والخامل، ونجد اختلافات كثيرة في الطبائع والعادات وطرق الفهم والتصور والإدراك والعقائد، ونظام العيش في الحياة والاجتماع وغير ذلك. ويقول العلماء والباحثون: إن لذلك أسبابا ثلاثة: الجنس، والبيئة، والزمن. وقد نوه بشيء من هذا ابن خلدون في «مقدمته» ونسب اختلاف الأخلاق والألوان إلى طبيعة الإقليم، ونسب إلى السودان الخفة والطيش والميل إلى الطرب، ووصفهم بالحمق، وغير ذلك مما سببه طبيعة الأقاليم الحارة. وفي كلام ابن خلدون عن العرب وأخلاقهم العمرانية والاجتماعية، ما يدل على أنه يقصد بذلك خواص الجنس وأثره في الأمم، واختلاف الأمم بعضها عن بعض بسبب اختلاف الأجناس والبيئات.
هذا أساس مذهب تين
Taine
العالم النقاد الفرنسي.
6
يقول تين: «الرجل ثمرة من ثمرات البيئة التي ولد وتربى فيها، كالشجرة تنمو في الأرض التي نبت فيها أصلها، وإنه يمكن أن ترجع جميع الأسباب التي تكون الرجل إلى ثلاثة أصلية: الجنس، والبيئة الطبعية والاجتماعية، ثم الزمن الذي تكونت فيه حياته العقلية.» قال: «ولا يمكن معرفة الشخص إلا إذا وقف الإنسان على هذه الأشياء؛ لأنها الوسائل الثلاثة اللازمة لمعرفته.» وكل طرق تين في البحث بنيت على هذه الأصول، وطريقته هذه من أهم الطرق وأنفعها؛ لأنها تحمل الناقد على دراسة ووصف الأمة التي فيها نشأ الكاتب، وإلى البلد الذي عاش فيه والمدنية التي تأثر بها.
وأصل مذهب تين بناء الأحوال النفسية من فكر وإرادة، وقوة وضعف في الرأي على أسباب جسمية؛ أي على ما يسمونه الآن «علم وظائف الأعضاء»؛ لأنه يرى أن جميع الأفكار والإحساسات متصلة اتصالا تاما بحركة الأعصاب، وعنده أن الوسائل إلى معرفة الحقائق هو الحواس والإلهامات، وما عدا ذلك كذب وافتراء، مما لا يصح أن يهتم به العلماء. فكانت طريقته علمية صرفة، فأراد أن يدخل الأدب والبلاغة في هذه الدائرة العلمية، وأن يجعلها من العلوم الاجتماعية. وإذ كان يبني مذهبه على التجارب العلمية، أراد أن يجعل الأدب والبلاغة إحدى هذه التجارب؛ ليتوصل بها إلى الحكم على الأفراد والمجتمع - كما أراد قبله «سنت بوف» أن يجعل دراسة البلاغة كتاريخ طبعي للأفكار والعقول - ولأن هذه الحوادث والأعمال التي تمر في المجتمع وتملأ البلاغات، هي التي يستمد منها الكتاب والشعراء معلوماتهم وأفكارهم. قال تين: «... يجب أن يكون أساس التاريخ «التحليل» العلمي للنفوس، وأن ما يفعله المؤرخ لإظهار الحوادث الماضية وإيضاحها يفعله الكاتب والقصاص لإيضاح الحوادث الحاضرة ... إذ ليس الضرر في الجري وراء الأحلام فقط، أو في ترك النفس تسبح في الخيالات. ولكنه أيضا فيما ليس محققا ولو كان محتمل الوقوع؛ لأن المخ خلق لحفظ الحقائق، كما أن البصر خلق لإدراك المبصرات إدراكا واضحا. ومتى اهتمت العقول بغير الحقائق دبت فيها الأمراض دبيبا؛ كالعين تضطرب عند اضطراب الأشياء التي تراها؛ فالحقائق هي سلامة العقول.»
وبناء على هذا المذهب لم يعتقد تين بغير أثر الحواس. وعنده أن كل موجود عبارة عن جزء من سلسلة حركات وإحساسات.
صفحة غير معروفة