3
وكان من رأي جماعة من الأدباء أن القصص والروايات تصح أن تكون منبعا من منابع التاريخ، ومرجعا من مراجعه؛ لأنك تجد فيها كل أشكال الناس؛ ففيها الطفل والشاب، والجندي والحاكم، والمالي والشريف والسياسي، بمميزاتهم وأخلاقهم النفسية والاجتماعية، وبأشكالهم الحقيقية، فقد أخذت الكتابة شكلا علميا تاريخيا، وصارت البلاغة كتراجم لأشخاص ونفوس اجتماعية لأفراد خاصة معينة، أو بعبارة أخرى، أصبحت الكتابة تمثل أخلاق المجتمع، وتكشف حقيقته، كما أن العلوم يتوصل بها إلى تقرير الحقائق، كدرس طبيعة حيوان، أو صفة عامة في فصيلة من فصائل النبات.
هل أصحاب هذا الرأي محقون؟ وهل يؤخذ هذا الكلام على علاته؟ وهل الأشخاص الذين نراهم في جوف القصص وفي بطون الحكايات لهم صورة أصلية في الخارج؟ وهل أوصافهم وأعمالهم ووظائفهم حقيقة من الحقائق الثابتة؟ إذا بحثنا في ذلك بحثا دقيقا وجدنا أن هناك فرقا ظاهرا، وأحيانا مخالفة واضحة بين بعض الكتابات البلاغية وبين البيئة التي نبتت فيها وخرجت منها. وسبب ذلك أهواء الكاتب الشخصية وأغراضه النفسية، أو تأييد فكرة يعمل على إثباتها ويبالغ في تقديسها.
ذلك لا يظهر في الآداب العربية ظهورا واضحا؛ لأن بلاغة العرب محصورة أو تكاد تكون محصورة في الشعر، والشعر لا يمثل حالة الاجتماع تمثيل النثر له؛ لضيق المجال فيه؛ لأنه لا يسع جميع الأفكار، ولا يحتمل إظهار الحقائق كما ينبغي، لما فيه من القوانين التي يجب على الشاعر اتباعها. وكثيرا ما تضطره إلى ذكر ما لا يلزم أو حذف ما يلزم. فالشاعر لا يجد في شعره الحرية المطلقة التي يجدها الناثر في نثره. ولأن الشعر رغم كل شيء مبناه الخيال والمبالغات، والصناعة الشعرية كثيرا ما تضطر الشاعر اضطرارا لاتباع أهوائه، خصوصا الشعر العربي لأنه أكثر الشعر رونقا وبهاء، وأشده ارتباطا بالنغمات الموسيقية، والموازين والألفاظ الضخمة، والاستعارة والتشبيه والمجاز.
4
فجمال الشعر العربي في الصناعة، وهو كذلك عند جميع الأمم خصوصا الشعر الوجداني، فإنه يكاد يكون مبنيا على ذلك فحسب، فكيف يستدل بالشعر على الحقيقة؟ وقولهم: «إن الشعر ديوان العرب، به أخلاقهم وعاداتهم وأنسابهم وحروبهم» ليس معناه أن الشعر يصح أن يكون دليلا من أدلة التاريخ العام؛ فإذا روى أحد الشعراء قصة فلا يصح أن تؤخذ على أنها حقيقة من الحقائق الثابتة، كما في كتب التاريخ، وإلا لصح أن تعتبر الأساطير الشعرية «والأمثال» حجة تاريخية، ولم يقل بذلك مفكر؛ لأن كل الشعر اليوناني القديم خرافي، وكل ما فيه من الآلهة والحروب خرافي أيضا، وربما لم يحصل شيء مطلقا من هذه الحروب، بل من المحقق أن أشيل وأغمنون وآلهة الشعر التي نزلت من السماء أشخاص خياليون، والقصة نفسها خيالية. بل قالوا: إن هوموروس نفسه شخص خرافي لا أثر له في الحقيقة، فكيف تكون هذه الأشعار ومثلها دليلا على حالة الاجتماع وعلى حياة الأمم دلالة تاريخية؟ وهل يصح أن نصدق بوجود الأشخاص الذين وجدوا في أشعار الجن عند أدباء العرب؟ وأن تكون قصة «ألف ليلة وليلة» صحيفة صادقة من صحف التاريخ الإسلامي؟ أو صورة صحيحة من صور الحياة الاجتماعية في بغداد ومصر وغيرهما؟ لا نزعم أن كل ما بها ضرب من الكذب أو الافتراء. ولكن الإنسان يرى من أول وهلة أن بها مبالغات هي أثر الكتابة الخرافية، والأساطير الأدبية وأثر الصنعة، فيها أشخاص معروفون، فيها ملوك وأمراء، فيها نساء وحكام. ولكن أوصافهم أو أشخاصهم غير حقيقية .
وربما كان هذا الكذب الصناعي هو الذي يحمل القارئ أحيانا على استمرائها، والاسترسال في قراءتها؛ لأن الأشياء التي هي غير مألوفة، كثيرا ما تعجب الإنسان وترضي النفس التي تحب الخداع، وتميل إلى الانتقال وتحب التغيير، خصوصا عندما يكون فيها من الأفكار والخيالات ما يحرك عواطف الشاب، ويعجب الشيوخ والكهول. وكثيرا ما يكون تشويه الحقيقة في الفنون داعيا من دواعي الإعجاب. لماذا يعجبنا أن نرى صورة مشوهة، ذات رأس ضخم على جسم صغير لا يمكنه أن يتحمل هذا الرأس؟ أليس ذلك لأنه غريب عنا، بعيد عما نراه من الحقائق، محرك فينا حب الاستطلاع؟ كذلك الحال في جميع الفنون. غير أن هناك نوعا من الفنون التي تدخل في باب الحقائق، وتجعلها سائغة على النفس خفيفة الروح، سهلة القبول؛ فإن صورة يصورها المصور لإنسان، لا يمكن أن تكون غيره. ولكن ربما اقتضت الصناعة أن يضع على رأسه العمار بشكل خاص، أو أن يغير من شكل ملابسه أو لونها بعض التغيير، أو أن يجعل ارتفاع «طربوشه» مثلا ارتفاعا مناسبا لما يريد، أو أن تقضي الصناعة وضع ثلاثة أو أربعة أزرة في ملابسه، وهو لم يحمل إلا اثنين مثلا. هذه التفصيلات لا تغير من حقيقة الشخص نفسه. غير أنه لا وجود لها، كذلك الحال في الشعر والنثر؛ ففي أشعار العرب ما يدل في مجموعه على أخلاقهم، كالكرم والشجاعة وعدم احتمال الضيم، إلى غير ذلك مما ورد في شعرهم. ولكن لا يمكن أن ندرس إنسانا دراسة تامة في شعره، نعم قد يستدل من كتابات الرجل على شيء من أخلاقه، ويمكننا أن نعرف إن كان الشاعر عاقلا أو مجنونا، كما يمكننا أن نعرف إن كان مخطئا أو مصيبا في أفكاره. ولكن هل يصح أن نحكم على إنسان بالشجاعة لأنه مدح الشجاعة؟ أو نقول: إنه كريم لأنه مدح الكرم؟ لدينا الآن من يصف السيف والرمح، ويمدح الشجاعة والموت في سبيلها، وهو لا يعرف أن يقبض على السيف، وتهتز فرائصه خوفا إذا هم إنسان يضربه بيده لا بسيفه، وكم من شاعر وصف الخمر وهو لم يشربها، ومدح التقوى وهو لم يعرفها.
وقد يكون للكاتب أو الشاعر رأي خاص، يريد أن ينشره أو يعمل على تأييده، ورأيه غير معروف في البيئة التي يعيش فيها، أو معروف عند القلة، فإن قصص بول بورجيه
، القصاص الفرنسي بها نزعة دينية كتوليكية؛ لأنها تدعو إلى الكنيسة الكتوليكية وإلى مذاهبها، وتعمل على تأييد ذلك، وأنطول فرانس
Anatolé France
صفحة غير معروفة