ولم يكن قد انتهى من ضرب خيامه حتى وافاه كتاب من يوسف يدعوه فيه إلى إحدى خصال ثلاث: إما الإسلام، أو الجزية، أو الحرب، فاستاء جد الاستياء من هذا الكتاب، وكلف أحد كتابه من العرب أن يرد عليه بكتاب يقول فيه: إني ما كنت أتوقع أن يصل الحد بالمسلمين الذين كانوا يعطونني الجزية منذ سنين مضت، أن يعرضوا علي مثل هذه الاقتراحات الجارحة، ومع هذا فإن لدي جيشا في استطاعته أن ينزل العقوبة على هذه الوقاحة البالغة من الأعداء.
ولما وصل الكتاب اشتغل بالرد عليه أحد الكتاب الأندلسيين، ولما سمعه يوسف رآه مطولا فاكتفى بأن يكتب في حاشية كتاب الإمبراطور هذه العبارة: «الذي يكون ستراه.» وبعث بهذا الرد إليه.
6
ولم يبق بعد هذا إلا تحديد وقت المعركة، وبذلك كانت تقضي العادة في ذلك العهد، وقد ضربوا لها موعدا يوم الخميس 22 أكتوبر سنة (1086) ولكن الأذفونش أرسل في نفس اليوم إلى المسلمين يقول: «غدا الجمعة وهو يوم عيدكم، والأحد عيدنا، فأقترح إذن أن تكون المعركة يوم الاثنين.» فقبل يوسف هذا الاقتراح، ولكن المعتمد رأى فيه حيلة سياسية.
وكان الأندلسيون في مقدمة الجيش معرضين للهجمات الأولى، أما المرابطون فكانوا في المؤخرة تسترهم الجبال، فلم يكن بد من أن تتخذ مقدمة الجيش الحيطة والحذر حتى لا يباغتها العدو، وأخذت طلائع المسلمين تترقب حركات العدو، وكانت الأفكار والخواطر في قلق وانزعاج، والمعتمد لا ينفك يستشير منجميه، وأصبح الوقت حرجا ودنت الساعة الحاسمة التي ستدور فيها رحى المعركة الفاصلة التي يتوقف على نتيجتها مستقبل إسبانيا، وكانت جيوش القشتاليين أوفر عددا إذ كانت تتراوح - على ما يظن - بين خمسين إلى ستين ألفا، بينما جيوش خصومهم المسلمين لا تعدو عشرين ألفا.
ومع طلوع الفجر بدأت مخاوف المعتمد تتحقق، فقد أبلغه بعض طلائعه أن الجيش المسيحي يقترب، وعلى هذا يصبح مركزه على شفا الخطر، ويستهدف جيشه لأن يسحق قبل أن يقترب المرابطون من ساحة القتال، فبعث إلى يوسف يستحثه أن يتقدم بجيوشه على عجل، أو أن يوافيه على الأقل بالمدد الكبير الكافي، وقد كان يوسف قد وضع خطة لا يستطيع التحول عنها، فلم يبادر إلى تلبية طلبه، وكان قليل الاهتمام بما يصيب الأندلسيين، وقد صاح لهذه المناسبة قائلا: «وماذا يهمني إذا كان نصيب هؤلاء جميعا الهلاك، إنهم جميعا أعداء.»
ولم يسع الأندلسيين إلا الفرار حيث وجدوا أنفسهم وحدهم، أما الإشبيليون، فقد كانوا - على غرار ملكهم الذي جرح في وجهه ويده - مثلا للشجاعة والبسالة والإقدام، فصمدوا للعدو، وقاوموا صدماته العنيفة، إلى أن وصلت لمساعدتهم نجدة من عسكر المرابطين، وحينئذ صارت المعركة أقل توازنا، وقد دهش الإشبيليون أشد دهشة حين رأوا العدو يقاتل متقهقرا؛ لأن المدد الذي وصل لم يكن من الكثرة بحيث يزهى على سائر الجيش بأن يكون صاحب الفضل في الانتصار على الأعداء، والحقيقة أن الفضل في تقهقر الجيش لم يكن لمجرد وصول المدد.
وإليك ما وقع: لما رأى يوسف أن الجيش القشتالي التحم بالأندلسيين بدأ ينفذ خطة وضعها، وهي مباغتته من الخلف، ولذلك لم يرسل إلى المعتمد إلا المدد القليل الكافي حتى لا يسحقه الأعداء، ثم وفق إلى تنفيذ هذه الخطة الحربية حين زحف بأكبر جزء من جيشه على معسكر الأذفونش وأجرى مذبحة هائلة في الجنود الموكلين بحراسة المعسكر، وأشعل النار فيه فاحترق، وانقض على ظهر القشتاليين، وهو يحتوش أمامه الجنود الفارين.
وإذ قد وجد الأذفونش نفسه بين نارين، ورأى أن الجيش الذي باغته من الخلف، أضخم عديدا من الجيش الذي في مواجهته، اضطر أن يحول قوته الرئيسية إليه، وحمي وطيس المعركة، وكانت الحرب سجالا بين الفريقين المتحاربين، وكان يوسف يجول على صهوة جواده بين صفوف المقاتلة من المسلمين، وهو يهيب بهم: «أن تشجعوا أيها المسلمون، أعداء الله أمامكم، والجنة تنتظركم، وطوبى لمن أحرز الشهادة.»
وسرعان ما عاد الأندلسيون الفارون فنظموا صفوفهم، وأخذوا أمكنتهم من ميدان القتال لشد أزر المعتمد، ثم جرد يوسف حرسه الاحتياطي من السودان فحملوا على القشتاليين من ناحية أخرى حملة منكرة أتوا فيها بالعجائب.
صفحة غير معروفة