وكان الشعر الذي اتفق للمغني أن يوقع عليه الغناء يدور حول معنى أن الحياة وأوقات السرور سريعة الزوال، وأنها إلى نهاية وشيكة عاجلة، وأنه ينبغي أن نحتسي المدام، ونمزج ابنة الكرم بابنة المزن.
وكانت القطعة التي لحنها المغني تتألف من خمسة أبيات، ومن غريب الاتفاق أن عدد هذه الأبيات، هو بعينه عدد الأيام التي عاشها المعتضد بعد سماعها، يضاف إلى ذلك أنه بعد مرور يومين على سماعها أي في يوم الخميس 26 فبراير جرح المعتضد في عاطفته البنوية جرحا داميا، وقد كان - على قساوة قلبه - شديد الحب لبنيه، فرزئ بموت ابنته التي كان يحبها إلى درجة العبادة، وشيعها إلى قبرها يوم الجمعة، وقلبه يتسعر حزنا.
2
وبعد أن ووريت التراب وعاد من الجنازة شكا وجعا في رأسه أليما، ودخل القصر وفيه اعتراه نزيف دموي كاد يودي بحياته، وأشار عليه طبيبه بالفصد ولكن المعتضد تمرد على طبيبه فأرجأ الفصد إلى الغد، فكان هذا من الأسباب التي عجلت بوفاته حيث اشتد النزيف في اليوم الثاني فانحبس لسانه، ثم لفظ النفس الأخير.
وخلفه ابنه المعتمد الذي سنقدمه للقارئ في الفصل التالي!
الفصل التاسع
ولد المعتمد عام (1040) وقلده أبوه بعض الولايات الصغيرة وهو في الحادية عشرة أو الثانية عشرة من عمره، وبعد برهة يسيرة ولاه قيادة جيش إشبيلية فحاصر «شلب» وفيما هو محاصر لها اتصل به فتى أفاق كانت سنه لا تعلو عن سن المعتمد بأزيد من تسع سنين، وقد واتاه الحظ باتصاله به، ونبه شأنه فيما بعد، ذلك الفتى هو ابن عمار كان مولده في قرية من أعمال «شلب» في بيت خامل الذكر، لا حظ له في الرياسة من قديم الدهر، نشأ في مدينة «شلب» هذه صغيرا، وتعلم فنون الأدب على جماعة من أهلها، ثم رحل إلى قرطبة فتأدب بها، وبرع في صناعة الشعر، وما برح يجوب أنحاء الأندلس يتكسب بالشعر، وينظم قصائد المدح، يسترفد بها كل من يتوسم فيه الأريحية والعطاء، لا يخص بشعره الملوك دون السوقة، كما يفعل النابهون من شعراء عصره الذين يرون من الزراية عليهم أن ينظموا الشعر في غير الملوك والنابهين من العظماء.
كان هذا الشاب الناشئ والشاعر المغمور، بنزعته هذه ورثاثة ملبسه وبما يلبسه من جبة صوف طويلة وقلنسوة صغيرة، يهش له ويبش في وجهه أناس، ويعطف عليه ويرثي لحاله آخرون.
وكان يعد من السعادة أن يظفر بسري من أولئك الذين أوتوا حظا من الغنى، ونالوا نصيبا من الثراء، ليعطيه مقابل ما يمدحه به من شعره الذي له قيمته وخطره، فضلة مما أوتي من المال يقنع بها، ولا يزهد فيها.
ومن ظريف ما حدث له في بعض سفراته: أنه ورد «شلب» في وقت مسه فيه الضيق، وأجهده الضنك، وهو لا يملك سوى دابته التي لم يجد علفها، والتي مسها الجوع، وشفها الضنى مثله، فماذا يصنع في أمر ذلك الرفيق الأمين الذي يلازمه في رحله وأسفاره، ويشاركه في آلامه وشدائده، لم ير بدا من أن يبعث بشعره إلى رجل من وجوه أهل السوق بالمدينة، لا حظ له من الأدب، ولا علم له بصناعة الشعر، فكانت منزلة شعره عند ذلك التاجر أن ملأ له المخلاة شعيرا، ووجه بها إليه، والرجل وإن لم يتذوق ما في القصيدة من حلاوة الشعر، فإنه كان مزهوا بها، إذ رأى نفسه قد مدح على لسان أحد الشعراء، وكذلك ابن عمار رأى أن ما وصله به من أجل الصلات.
صفحة غير معروفة