وهذا كلام صحيح، ولكن إلى حد ما؛ فقد انتشرت المسيحية لهذا السبب نفسه في جهتين، انتشرت في بلاد الحبشة - جنوبا - وفي سوريا - شمالا - حيث لقيت شيئا من القبول، وقد انتصرت كذلك في مدينة نجران في وقت مبكر، ودانت شبه جزيرة سينا بالمسيحية ، كما تنصر عرب سوريا، وأصبح علم النصرانية خفاقا على كثير من الأديرة والكنائس.
على أن هذا النجاح كله لم يكن - في أي مكان تقريبا - إلا مظهرا من المظاهر لا حقيقة من الحقائق.
أما في أواسط بلاد العرب، وفي قلب جزيرتهم حيث نبتت جرثومة العربي القح وأرومته، فلم تنجح فيها الدعاية للدين المسيحي، ولم نكن لنرى ثم إلا أثرا ضعيفا له - إن لم نقل - معدوما.
وكانت المسيحية في ذلك الزمن - على وجه عام بما تحويه من معجزات، وبما فيها من عقيدة التثليث، وما يتصل بذلك من رب مصلوب - قليلة الجاذبية، بعيدة عن التأثير في نفس العربي الساخر الذكي.
وآية ذلك ما تراه واضحا فيما حدث للأساقفة الذين سعوا إلى تنصير المنذر الثالث ملك الحيرة - حوالي عام 513 من الميلاد - وإن المنذر ليصغي إلى ما يقولون بانتباه، إذ دخل عليه أحد قواده، فأسر إليه بضع كلمات، ولم يكد ينتهي منها حتى بدت على أسارير الملك أمارات الحزن العميق، فتقدم إليه أحد القساوسة يسأله متأدبا متلطفا عما أشجاه، فأجابه الملك: «يا له من خبر سيئ! لقد علمت أن رئيس الملائكة قد مات، فوا حسرتا عليه!»
فقال القسيس: «هذا محال أيها الأمير، وقد غشك من أخبرك بذلك، فإن الملائكة خالدون يستحيل عليهم الفناء!»
فأجابه الملك: «أحق ما تقول؟ وتريد أن تقنعني بأن الله ذاته يموت؟» •••
أما حظ اليهودية في اجتذاب العرب إليها، فهو أكثر من حظ المسيحية، فقد رحلت جمهرة كبيرة من اليهود بعد أن شردهم الإمبراطور «أدريان» الذي ثاروا عليه، فألحق بهم الأذى، وشتت شملهم، فوجدوا في بلاد العرب ملجأ لهم، وبثوا دعايتهم فيها، فدان باليهودية قبائل عدة من سكان الجزيرة العربية.
ولعل هؤلاء هم وحدهم المتهودون الذين أخلصوا لليهودية حقا، وقد صارت اليهودية نفسها - في زمن ما - دين اليمن الرسمي.
على أنها ضعفت - على مرور الزمن - وقل إقبال العرب عليها؛ لأن اليهودية لا تلائم إلا شعبا مختارا، أما أن تكون دينا عاما للناس قاطبة فلا! ذلك أنها ملأى بالشكايات والآمال الغامضة التي تعلق بها اليهود بعد أن خرب بيت المقدس، وليس هذا مما تلائم طبيعته الشعب الطموح إلى المجد !
صفحة غير معروفة