وقد أعلن رسالته على رأس الأربعين ولم يذكره من العرب قبل ذلك أحد بسوء ولا كانوا ينظرون إليه إلا بعين الإجلال والإكبار نظرا لما اتصف به من الصفات الحميدة والفضائل الجمة وفي طليعتها الصدق والأمانة اللتان يشاهد الناس آثارهما في جميع أقواله وأعماله حتى سموه الأمين وأصبح به من يدعى من بينهم . ولما صدع بأمر ربه وقام يدعو إلى الله وتوحيده ويتلو عليهم ما نزل عليه من القرآن تلك المعجزة الخالدة التي بهت أمام بلاغتها أولئك البلغاء المطبوعون وعجزوا عن أن يأتوا بسورة من مثله ولوكان بعضهم لبعض ظهيرا، عند ذلك كذبوه ونعتوه بالسحر والجنون وبالغوا في الأذى إلى حد لا يقوى على تحمله من لم يكن مؤيدا بقوة روحية تفوق تصورات البشر . ومحال أن يصبر على ما صبر عليه من لم يكن ملحوظا بعناية الله محفوظا برعايته محوطا بسياج من قوة قدرته. دعاهم غير مكترث بعراقيلهم المتنوعة بيقين لا عهد لهم به وثبات لا مثيل له محتسبا لله ما يلاقي من العنت والتكذيب ودام على هذا المنوال أمدا غير قصير . وقليل منهم من وفقه الله في هذه الأثناء فأسلموا على خوف عظيم مما يلحقهم من الأذى والإرهاق ، فمنهم من أذن له في الهجرة إلى الحبشة لذلك ومنهم من بقي بمكة محتسبا صابرا على ما لا يطاق مضضه ولا يقوى على تحمله إلا من تمكن الإيمان من قلبه وأخلص النية لله وحده وهم الذين ( إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون ) كالصديق ومن على شاكلته من المهاجرين الصابرين في البأساء والضراء وحين البأس . ثم بعد البلاء الشديد الطويل العريض الذي لا يناسب هذا المختصر شرحه أمر صلى الله عليه وسلم بالهجرة إلى المدينة المنورة بعد الاتفاق مع أهلها على النصر والتأييد ، فهاجر مختفيا ومعه صاحبه أبو بكر الصديق ، فوصل المدينة بعد أن رأى منه من مر بهم في طريقه من خوارق عجيبة .
صفحة ١٤