97

مختصر تفسير ابن كثير

الناشر

دار القرآن الكريم

رقم الإصدار

السابعة

سنة النشر

١٤٠٢ هجري

مكان النشر

بيروت

تصانيف

التفسير
- ١٣٠ - وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ - ١٣١ - إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ - ١٣٢ - وَوَصَّى بِهَآ إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مسلمون يقول تعابرك وَتَعَالَى رَدًّا عَلَى الْكُفَّارِ فِيمَا ابْتَدَعُوهُ وَأَحْدَثُوهُ مِنَ الشِّرْكِ بِاللَّهِ، الْمُخَالِفِ لِمِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ إِمَامِ الْحُنَفَاءِ، فَإِنَّهُ جرَّد تَوْحِيدَ رَبِّهِ ﵎ فَلَمْ يَدْعُ مَعَهُ غَيْرَهُ، وَلاَ أُشْرِكَ بِهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ، وَتَبَرَّأَ مِنْ كُلِّ مَعْبُودٍ سِوَاهُ، وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ سَائِرَ قَوْمِهِ، حَتَّى تَبَرَّأَ مِنْ أَبِيهِ، فَقَالَ: ﴿يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فطر السموات والأرض حَنِيفًا وَمَآ أَنَاْ مِنَ المشركين﴾ وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَآءٌ مِّمَّا تَعْبُدُونَ* إِلاَّ الذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ﴾، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَآ إِيَّاهُ، فَلَمَّا تبيَّن لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ للَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ. إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ﴾ وَقَالَ تَعَالَى: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ* شَاكِرًا لأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إلى صِرَاطٍ مستقيم﴾، وَلِهَذَا وَأَمْثَالِهِ قَالَ تَعَالَى: ﴿وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ﴾؟ أَيْ ظَلَمَ نَفْسَهُ بِسَفَهِهِ وَسُوءِ تَدْبِيرِهِ، بِتَرْكِهِ الْحَقَّ إِلَى الضَّلَالِ، حَيْثُ خَالَفَ طَرِيقَ مَنِ اصْطُفِيَ فِي الدُّنْيَا لِلَّهِدَايَةِ وَالرَّشَادِ مِنْ حَدَاثَةِ سِنِّهِ إِلَى أَنِ اتَّخَذَهُ اللَّهُ خَلِيلًا، وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الصالحين السعداء، فمن ترك طريقه هذا وملكه وَمِلَّتَهُ، وَاتَّبَعَ طُرُقَ الضَّلَالَةِ وَالْغَيِّ فأيُّ سَفَهٍ أَعْظَمُ مِنْ هَذَا؟ أَمْ أَيُّ ظُلْمٍ أَكْبَرُ مِنْ هَذَا؟ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ قال أبو العالية وقتادة: نزلت فِي الْيَهُودِ أَحْدَثُوا طَرِيقًا لَيْسَتْ مِنْ عِنْدِ الله، وخالفوا ملة إبراهيم فيما أحدثوه، وَيَشْهَدُ لِصِحَّةِ هَذَا الْقَوْلِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلاَ نَصْرَانِيًّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ* إن أولى اللناس بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ والله وَلِيُّ المؤمنين﴾. ⦗١٣١⦘ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ أَيْ أَمَرَهُ اللَّهُ بِالْإِخْلَاصِ لَهُ وَالِاسْتِسْلَامِ وَالِانْقِيَادِ فَأَجَابَ إِلَى ذَلِكَ شَرْعًا وَقَدَرًا وَقَوْلُهُ: ﴿وَوَصَّى بِهَآ إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ﴾ أَيْ وَصَّى بِهَذِهِ الْمِلَّةِ وَهِيَ الْإِسْلَامُ لِلَّهِ، أَوْ يَعُودُ الضَّمِيرُ عَلَى الْكَلِمَةِ وَهِيَ قَوْلُهُ: ﴿أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ لِحِرْصِهِمْ عَلَيْهَا وَمَحَبَّتِهِمْ لَهَا حَافَظُوا عَلَيْهَا إِلَى حِينِ الْوَفَاةِ وَوَصَّوْا أبناءهم مِنْ بَعْدِهِمْ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ﴾ وَالظَّاهِرُ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - أَنَّ إِسْحَاقَ وُلِدَ لَهُ (يَعْقُوبُ) فِي حَيَاةِ الْخَلِيلِ وَسَارَّةُ، لِأَنَّ الْبِشَارَةَ وقعت بهما في قوله: ﴿فبشرناها بإسحق ومن وراء إسحق يعقوب﴾، أيضا فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ: ﴿وَوَهَبْنَا لَهُ إسحق وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النبوة والكتاب﴾ الْآيَةَ. وَقَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: ﴿وَوَهَبْنَا لَهُ أسحق ويعقوب نافلة﴾، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ وُجِدَ فِي حَيَاتِهِ، وَأَيْضًا فَإِنَّهُ بَانِي بَيْتَ الْمَقْدِسِ كَمَا نَطَقَتْ بِذَلِكَ الْكُتُبُ الْمُتَقَدِّمَةُ، وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ مَسْجِدٍ وُضِعَ أَوَّلُ؟ قَالَ: «الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ»، قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: «بَيْتُ الْمَقْدِسِ»، قُلْتُ: كَمْ بَيْنَهُمَا: قَالَ: «أَرْبَعُونَ سَنَةً» الْحَدِيثَ فَزَعَمَ ابْنُ حبان أن بين سليمان الذي اعتقد بأنه باني بيت المقدس إنما كَانَ جَدَّدَهُ بَعْدَ خَرَابِهِ وَزَخْرَفَهُ - وَبَيْنَ إِبْرَاهِيمَ أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَهَذَا مِمَّا أُنْكِرَ عَلَى (ابْنِ حيان) فإن المدة بينهما تزيد على ألوف السنين والله أعلم، وأيضًا فإن وَصِيَّةِ يَعْقُوبَ لِبَنِيهِ سَيَأْتِي ذِكْرُهَا قَرِيبًا، وَهَذَا يدل على أنه ههنا مِنْ جُمْلَةِ الْمُوصِينَ. وَقَوْلُهُ: ﴿يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ﴾ أي أحسنوا في حلا الْحَيَاةِ، وَالزَمُوا هَذَا لِيَرْزُقَكُمُ اللَّهُ الْوَفَاةَ عَلَيْهِ، فَإِنَّ الْمَرْءَ يَمُوتُ غَالِبًا عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ، وَيُبْعَثُ عَلَى مَا مَاتَ عَلَيْهِ، وَقَدْ أَجْرَى اللَّهُ الْكَرِيمُ عَادَتَهُ بِأَنَّ مَنْ قَصَدَ الْخَيْرَ وُفِّق لَهُ وَيُسِّرَ عَلَيْهِ، وَمَنْ نَوَى صَالِحًا ثَبَتَ عَلَيْهِ، وَهَذَا لَا يُعَارِضُ مَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «إِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلَّا بَاعٌ أَوْ ذِرَاعٌ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيَدْخُلَهَا»، لِأَنَّهُ قد جاء في بعض الروايات هذا الحديث: ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس، وبعمل أَهْلِ النَّارِ فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى* وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بالحسنى فسنيسره للعسرى﴾.

1 / 130