مختصر تفسير ابن كثير
الناشر
دار القرآن الكريم
رقم الإصدار
السابعة
سنة النشر
١٤٠٢ هـ - ١٩٨١ م
مكان النشر
بيروت - لبنان
تصانيف
- ٣٥ - وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظالمين
- ٣٦ - فأزلهما الشيطان عنها فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إلى حِينٍ
يبين اللَّهُ تَعَالَى إِخْبَارًا عَمَّا أَكْرَمَ بِهِ آدَمَ، بَعْدَ أَنْ أَمَرَ الْمَلَائِكَةَ بِالسُّجُودِ لَهُ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ إِنَّهُ أَبَاحَهُ الْجَنَّةَ يَسْكُنُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَآءُ وَيَأْكُلُ مِنْهَا مَا شَاءَ (رَغَدًا) أي هنيئًا واسعًا، طيبًا. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي الْجَنَّةِ الَّتِي أُسْكِنَهَا آدَمُ هي في السماء أم في الأرض؟ فالأكثرون عَلَى الْأَوَّلِ، وَحَكَى الْقُرْطُبِيُّ عَنِ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْقَدَرِيَّةِ الْقَوْلَ بِأَنَّهَا فِي الْأَرْضِ، وَسَيَأْتِي تَقْرِيرُ ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، ويساق الْآيَةِ يَقْتَضِي أَنَّ حَوَّاءَ خُلِقَتْ قَبْلَ دُخُولِ آدم الجنة، ويقال: إن خلق حواء كان بعد دخول الجنة كما قال السدي في خبر ذكره عن ابن عباس وَعَنْ نَاسٍ مِنَ الصَّحَابَةِ "أُخْرِجُ إِبْلِيسُ مِنَ الْجَنَّةِ وَأُسْكِنَ آدَمُ الْجَنَّةَ، فَكَانَ يَمْشِي فِيهَا وحيدًا لَيْسَ لَهُ زَوْجٌ يَسْكُنُ إِلَيْهِ، فَنَامَ نَوْمَةً فَاسْتَيْقَظَ وَعِنْدَ رَأْسِهِ امْرَأَةٌ قَاعِدَةٌ خَلَقَهَا اللَّهُ من ضلعه، فسألها: من أَنْتِ؟ قَالَتِ: امْرَأَةٌ، قَالَ: وَلِمَ خُلِقْتِ؟ قَالَتْ: لِتَسْكُنَ إِلَيَّ، قَالَتْ لَهُ الْمَلَائِكَةُ يَنْظُرُونَ مَا بَلَغَ مِنْ عِلْمِهِ: مَا اسْمُهَا يَا آدَمُ؟ قال: حواء، قالوا: ولمَ حَوَّاءَ؟ قَالَ: إِنَّهَا خُلِقَتْ مِنْ شَيْءٍ حَيٍّ".
وَأَمَّا قَوْلُهُ: ﴿وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ﴾ فَهُوَ اخْتِبَارٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَامْتِحَانٌ لِآدَمَ. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي هَذِهِ الشَّجَرَةِ مَا هِيَ؟ فَقَالَ السدي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الشَّجَرَةُ الَّتِي نُهِيَ عَنْهَا آدم ﵇ هِيَ الْكَرْمُ، وَتَزْعُمُ يَهُودُ أَنَّهَا الْحِنْطَةُ. وَقَالَ ابن جرير عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الشَّجَرَةُ الَّتِي نُهِيَ عَنْهَا آدم ﵇ هي السنبلة، وقال ابن جرير بسنده: حَدَّثَنِي رَجُلٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ كَتَبَ إِلَى أَبِي الْجَلْدِ يَسْأَلُهُ عَنِ الشَّجَرَةِ الَّتِي أَكَلَ مِنْهَا آدَمُ، وَالشَّجَرَةِ الَّتِي تَابَ عِنْدَهَا آدَمُ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ أَبُو الْجَلْدِ: سَأَلْتَنِي عَنِ الشَّجَرَةِ الَّتِي نُهِيَ عَنْهَا آدَمُ وَهِيَ السُّنْبُلَةُ، وَسَأَلْتَنِي عَنِ الشَّجَرَةِ الَّتِي تَابَ ⦗٥٥⦘ عندها آدم وهي الزيتونة. وقال سفيان الثوري عَنْ أَبِي مَالِكٍ ﴿وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ﴾: النَّخْلَةُ، وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ ﴿وَلاَ تَقْرَبَا هذه الشجرة﴾: التينة.
قَالَ الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ ﵀: وَالصَّوَابُ فِي ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ: أن الله ﷿ ثَنَاؤُهُ نَهَى آدَمَ وَزَوْجَتَهُ عَنْ أَكْلِ شَجَرَةٍ بِعَيْنِهَا مِنْ أَشْجَارِ الْجَنَّةِ دُونَ سَائِرِ أَشْجَارِهَا فَأَكَلًا مِنْهَا، وَلَا عِلْمَ عِنْدِنَا بِأَيِّ شَجَرَةٍ كَانَتْ عَلَى التَّعْيِينِ، لِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَضَعْ لِعِبَادِهِ دَلِيلًا عَلَى ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ وَلَا مِنَ السُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ وَقَدْ قِيلَ: كَانَتْ شَجَرَةَ الْبُرِّ، وَقِيلَ: كَانَتْ شَجَرَةَ الْعِنَبِ، وَقِيلَ: كَانَتْ شَجَرَةَ التِّينِ. وَجَائِزٌ أَنْ تَكُونَ وَاحِدَةً مِنْهَا وذلك عِلْمٌ إذا عُلِم لم يَنْفَعُ الْعَالِمَ بِهِ عِلْمُهُ، وَإِنْ جَهِلَه جَاهِلٌ لم يضره جهله به والله أعلم.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا﴾ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ (عَنْهَا) عَائِدًا إِلَى الجنة، فيكون معنى الكلام فأزلهما أي فنحاهما، ويصح أين يَكُونَ عَائِدًا عَلَى أَقْرَبِ الْمَذْكُورِينَ وَهُوَ الشَّجَرَةُ فيكون معنى الكلام فأزلهما أي من قبل الزَّلَلِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ تَقْدِيرُ الْكَلَامِ ﴿فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا﴾ أَيْ بِسَبَبِهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أفك﴾ أَيْ يُصْرَفُ بِسَبَبِهِ مَنْ هُوَ مَأْفُوكٌ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: ﴿فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ﴾ أَيْ مِنَ اللِّبَاسِ وَالْمَنْزِلِ الرَّحْبِ وَالرِّزْقِ الْهَنِيءِ وَالرَّاحَةِ ﴿وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ﴾ أَيْ قَرَارٌ وَأَرْزَاقٌ وَآجَالٌ (إِلَى حِينٍ) أَيْ إِلَى وَقْتٍ مُؤَقَّتٍ وَمِقْدَارٍ مُعَيَّنٍ ثُمَّ تَقُومُ الْقِيَامَةُ، وَقَدْ ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ مِنَ السَّلَفِ كَالسُّدِّيِّ بِأَسَانِيدِهِ، وَأَبِي العالية، ووهب بن منبه وغيرهم، ههنا أَخْبَارًا إِسْرَائِيلِيَّةً عَنْ قِصَّةِ الْحَيَّةِ وَإِبْلِيسَ، وَكَيْفَ جَرَى مِنْ دُخُولِ إِبْلِيسَ إِلَى الْجَنَّةِ وَوَسْوَسَتِهِ، وَسَنَبْسُطُ ذَلِكَ إِن شَآءَ اللَّهُ فِي سُورَةِ الأعراف فهناك القصة أبسط منها ههنا والله الموفق.
فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا كَانَتْ جَنَّةُ آدَمَ الَّتِي أخرج منها فِي السَّمَاءِ كَمَا يَقُولُهُ الْجُمْهُورُ مِنَ الْعُلَمَاءِ فكيف تمكن إِبْلِيسُ مِنْ دُخُولِ الْجَنَّةِ وَقَدْ طُرِدَ مِنْ هنالك؟ وأجاب الجمهور بأجوبة، وأحدها أَنَّهُ مُنِعَ مِنْ دُخُولِ الْجَنَّةِ مُكَرَّمًا، فَأَمَّا على وجه السرقة وَالْإِهَانَةِ فَلَا يَمْتَنِعُ وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُهُمْ - كَمَا فِي التَّوْرَاةِ - أَنَّهُ دَخَلَ فِي فَمِ الْحَيَّةِ إِلَى الْجَنَّةِ. وَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ: يَحْتَمِلُ أَنَّهُ وَسْوَسَ لَهُمَا وَهُوَ خَارِجُ بَابِ الْجَنَّةِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَحْتَمِلُ أَنَّهُ وَسْوَسَ لَهُمَا وَهُوَ فِي الْأَرْضِ وَهُمَا فِي السَّمَاءِ. ذَكَرَهَا الزَّمَخْشَرِيُّ وَغَيْرُهُ. وقد أورد القرطبي ههنا أَحَادِيثَ فِي الْحَيَّاتِ وَقَتْلِهِنَّ، وَبَيَانِ حُكْمِ ذَلِكَ فأجاد وأفاد.
1 / 54