184

مختصر تفسير ابن كثير

الناشر

دار القرآن الكريم

رقم الإصدار

السابعة

سنة النشر

١٤٠٢ هجري

مكان النشر

بيروت

تصانيف

التفسير
رَأْيَ أَعْيُنِهِمْ، أَيْ جَعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ فِيمَا رأوه سببًا لنصرة الإسلام عليهم، وذا لَا إِشْكَالَ عَلَيْهِ إِلَّا مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ، وَهِيَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ بَعَثُوا (عُمَرَ بْنَ سَعْدٍ) يومئذ قبل القتال يحزر لهم المسليمن، فأخبرهم بأنهم ثلثمائة يَزِيدُونَ قليلاُ أَوْ يَنْقُصُونَ قَلِيلًا، وَهَكَذَا كَانَ الأمر، كانوا ثلثمائةة وَبِضْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا، ثُمَّ لَمَّا وَقْعَ الْقِتَالُ أَمَدَّهُمُ اللَّهُ بِأَلْفٍ مِنْ خَوَاصِّ الْمَلَائِكَةِ وَسَادَاتِهِمْ.
والقول الثاني: أن المعنى في قوله تعالى: ﴿يَرَوْنَهُمْ مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ العين﴾ أي يرى الفئة المسلمة الفئة الكافرة ﴿مِّثْلَيْهِمْ﴾ أي ضعفهم فِي الْعَدَدِ وَمَعَ هَذَا نَصَرَهُمُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُمْ كَانُوا مَا بَيْنَ التِّسْعِمِائَةِ إِلَى الْأَلْفِ، وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ، فَقَدْ كَانُوا ثَلَاثَةَ أَمْثَالِ الْمُسْلِمِينَ، وَعَلَى هَذَا فَيُشْكَلُ هَذَا الْقَوْلُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، لَكِنْ وجَّه ابْنُ جَرِيرٍ هَذَا وَجَعْلَهُ صَحِيحًا. كَمَا تَقُولُ: عِنْدِي أَلْفٌ وَأَنَا مُحْتَاجٌ إِلَى مِثْلَيْهَا، وَتَكُونُ مُحْتَاجًا إِلَى ثَلَاثَةِ آلَافٍ كَذَا قَالَ. وَعَلَى هَذَا فَلَا إِشْكَالَ، لَكِنْ بَقِيَ سُؤَالٌ آخَرُ وَهُوَ وَارِدٌ عَلَى الْقَوْلَيْنِ، وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: مَا الْجَمْعُ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَةِ وَبَيْنَ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي قِصَّةِ بَدْرٍ: ﴿وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا﴾
فالجواب: إن هذا كان في حالة، والآخر كان في حالة أخرى، كَمَا قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا﴾ الآية. قال: هذا يوم بدر، وَقَدْ نَظَرْنَا إِلَى الْمُشْرِكِينَ فَرَأَيْنَاهُمْ يُضْعَفُونَ عَلَيْنَا. ثُمَّ نَظَرْنَا إِلَيْهِمْ فَمَا رَأَيْنَاهُمْ يَزِيدُونَ عَلَيْنَا رَجُلًا وَاحِدًا. وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أعينهم﴾ الآية. وقال أبو إسحاق عن عبد الله بن مسعود: لَقَدْ قُلِّلُوا فِي أَعْيُنِنَا حَتَّى قُلْتُ لِرَجُلٍ إِلَى جَانِبِي: تَرَاهُمْ سَبْعِينَ! قَالَ: أَرَاهُمْ مِائَةً، قال: فأسرنا رجالً مِنْهُمْ فَقُلْنَا: كَمْ كُنْتُمْ؟ قَالَ: أَلْفَا، فَعِنْدَمَا عاين كل من الْفَرِيقَيْنِ الْآخَرَ رَأَى الْمُسْلِمُونَ الْمُشْرِكِينَ مِثْلَيْهِمْ، أَيْ أَكْثَرُ مِنْهُمْ بِالضِّعْفِ لِيَتَوَكَّلُوا وَيَتَوَجَّهُوا، وَيَطْلُبُوا الْإِعَانَةَ مِنْ رَبِّهِمْ ﷿، وَرَأَى الْمُشْرِكُونَ الْمُؤْمِنِينَ كَذَلِكَ لِيَحْصُلَ لَهُمُ الرُّعْبُ وَالْخَوْفُ وَالْجَزَعُ وَالْهَلَعُ. ثُمَّ لَمَّا حَصَلَ التَّصَافُّ وَالْتَقَى الْفَرِيقَانِ قَلَّلَ اللَّهُ هَؤُلَاءِ فِي أَعْيُنِ هَؤُلَاءِ، وَهَؤُلَاءِ فِي أعين هؤلاء ليقدم كل منهمها عَلَى الْآخَرِ: ﴿لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا﴾ أَيْ لِيُفَرِّقَ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ فَيُظْهِرَ كَلِمَةَ الإيمان على الكفر والطغيان، ويعزُ الْمُؤْمِنِينَ وَيُذِلَّ الْكَافِرِينَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ﴾، وقال ههنا: ﴿والله يؤيد بنصر مَن يَشَآءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُوْلِي الْأَبْصَارِ﴾ أَيْ: إن في ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن له بصيرة وفهم ليهتدي بِهِ إِلَى حُكْمِ اللَّهِ وَأَفْعَالِهِ، وَقَدَرِهِ الْجَارِي بِنَصْرِ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ
- ١٤ - زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ
- ١٥ - قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِّن ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ
يُخْبِرُ تَعَالَى عَمَّا زُيِّنَ لِلنَّاسِ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنْ أَنْوَاعِ الْمَلَاذِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينِ، فَبَدَأَ بِالنِّسَاءِ لِأَنَّ الْفِتْنَةَ

1 / 269