179

مختصر تفسير ابن كثير

الناشر

دار القرآن الكريم

رقم الإصدار

السابعة

سنة النشر

١٤٠٢ هجري

مكان النشر

بيروت

تصانيف

التفسير
الَّذِي يَرْجِعُ إِلَيْهِ عِنْدَ الِاشْتِبَاهِ ﴿وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ﴾ أَيْ تَحْتَمِلُ دَلَالَتُهَا مُوَافَقَةَ الْمُحْكَمِ، وَقَدْ تَحْتَمِلُ شَيْئًا آخَرَ مِنْ حَيْثُ اللفظُ والتركيبُ لَا مِنْ حَيْثُ الْمُرَادِ، وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي الْمُحْكَمِ والمتشابه، فقال ابن عباس: المحكمات ناسخة وحلاله وحرامه وحدوده وأحكامه وما يؤمر به ويعمل به. وَقَالَ يَحْيَى بْنُ يَعْمَرَ: الْفَرَائِضُ وَالْأَمْرُ وَالنَّهْيُ والحلال والحرام، وقال سعيد بن جبير: ﴿هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ﴾ لِأَنَّهُنَّ مَكْتُوبَاتٌ فِي جَمِيعِ الْكُتُبِ، وقال مقاتل: لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنَ أَهْلِ دِينٍ إِلَّا يَرْضَى بهن. وقيل في المتشابهات: المنسوخة والمقدم وَالْمُؤَخَّرُ وَالْأَمْثَالُ فِيهِ وَالْأَقْسَامُ وَمَا يُؤْمَنُ بِهِ ولا يعمل به، روي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقِيلَ: هِيَ الْحُرُوفُ الْمُقَطَّعَةُ فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ قَالَهُ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ، وعن مجاهد: المتشابهات يصدق بعضها بَعْضًا وَهَذَا إِنَّمَا هُوَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: ﴿كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ﴾ هُنَاكَ ذَكَرُوا أَنَّ الْمُتَشَابِهَ هُوَ الْكَلَامُ الَّذِي يَكُونُ فِي سِيَاقٍ وَاحِدٍ، وَالْمَثَانِي هُوَ الْكَلَامُ فِي شَيْئَيْنِ مُتَقَابِلَيْنِ كَصِفَةِ الْجَنَّةِ وَصِفَةِ النَّارِ، وذكر حال الأبرار وحال الفجّار ونحو ذلك، وأما ها هنا فَالْمُتَشَابِهُ هُوَ الَّذِي يُقَابِلُ الْمُحْكَمَ، وَأَحْسَنُ مَا قيل فيه هو الذي قدمنا، وهو الذي نص عليه ابن يَسَارٍ ﵀ حَيْثُ قَالَ: ﴿مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ﴾ فهن حجة الرب وعصمة العباد ودفع الخصوم الباطل، لَيْسَ لَهُنَّ تَصْرِيفٌ وَلَا تَحْرِيفٌ عَمَّا وُضِعْنَ عليه، قال: والمتشابهات في الصدق ليس لَهُنَّ تَصْرِيفٌ وَتَحْرِيفٌ وَتَأْوِيلٌ، ابْتَلَى اللَّهُ فِيهِنَّ الْعِبَادَ كَمَا ابْتَلَاهُمْ فِي الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ أَلَّا يَصْرِفْنَ إِلَى الْبَاطِلِ وَلَا يُحَرِّفْنَ عَنِ الْحَقِّ.
ولهذا قال الله تَعَالَى: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ﴾ أَيْ ضَلَالٌ وَخُرُوجٌ عَنِ الْحَقِّ إِلَى الْبَاطِلِ ﴿فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ﴾ أَيْ إِنَّمَا يَأْخُذُونَ مِنْهُ المتشابه الَّذِي يُمْكِنُهُمْ أَنْ يُحَرِّفُوهُ إِلَى مَقَاصِدِهِمُ الْفَاسِدَةِ وَيُنْزِلُوهُ عَلَيْهَا لِاحْتِمَالِ لَفْظِهِ لِمَا يَصْرِفُونَهُ. فَأَمَّا الْمُحْكَمُ فَلَا نَصِيبَ لَهُمْ فِيهِ لِأَنَّهُ دَامِغٌ لهم وحجة عليهم، ولهذا قال الله تعالى: ﴿ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ﴾ أَيِ الْإِضْلَالِ لِأَتْبَاعِهِمْ، إِيهَامًا لَهُمْ أنهم يحتجون على بدعتهم بالقرآن، وهو حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ لَا لَهُمْ، كَمَا لَوِ احْتَجَّ النَّصَارَى بِأَنَّ الْقُرْآنَ قَدْ نَطَقَ بِأَنَّ عِيسَى روح اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ، وتركوا الإحجاج بقول: ﴿إِنْ هُوَ إِلاَّ عبدُ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ﴾، وبقول: ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الْمُحْكَمَةِ الْمُصَرِّحَةِ بِأَنَّهُ خَلْقٌ مِنْ مَخْلُوقَاتِ اللَّهِ، وَعَبْدٌ وَرَسُولٌ مِنْ رسل الله.
وقوله تعالى: ﴿وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ﴾ أَيْ تَحْرِيفِهِ عَلَى مَا يُرِيدُونَ، وقال مقاتل والسدي: يبتغون أن يعلمون مَا يَكُونُ وَمَا عَوَاقِبُ الْأَشْيَاءِ مِنَ الْقُرْآنِ، وقد قال الْإِمَامِ أَحْمَدَ عَنْ عَائِشَةَ ﵂ قَالَتْ: قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ﴿هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ﴾ إلى قوله: ﴿أولو الألباب﴾ فقال: «إذا رأتيتم الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِيهِ فَهُمُ الَّذِينَ عَنَى اللَّهُ فاحذروهم». وقد روى هذا الحديث البخاري عِنْدَ تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ وَمُسْلِمٌ فِي كِتَابِ الْقَدَرِ مِنْ صَحِيحِهِ وَأَبُو دَاوُدَ فِي السُّنَّةِ من سننه ثلاثتهم عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ عَائِشَةَ ﵂ قَالَتْ: تَلَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ هذه الآية: ﴿هُوَ الذي أَنزَلَ عَلَيْكَ التاب مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ﴾ إِلَى قَوْلِهِ: ﴿وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «فإذا رَأَيْتُمُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ فَأُولَئِكَ الذين سمَّى الله فاحذروهم».
وروى أحمد عَنْ أَبِي أُمَامَةَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ﴾ قَالَ: «هُمُ الْخَوَارِجُ»، وفي قوله تعالى: ﴿يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وتسود وجوه﴾ قال: «هم الخوارج»، وهذا الحديث

1 / 264