مختارات من مقالات أمرسن

ليو تولستوي ت. 1450 هجري
86

مختارات من مقالات أمرسن

تصانيف

عندما نعالج موضوع الدولة، يجب أن نذكر أن نظمها ليست أزلية، بالرغم من أنها قد وجدت قبلما نولد. يجب أن نذكر أن كل نظام من هذه النظم كان ذات يوم عمل رجل بمفرده، وأن كل قانون وكل عادة كان حيلة رجل يقابل بها موقفا بعينه. يجب أن نذكر أنها جميعا يمكن أن تحاكى، ويمكن أن تتغير. نستطيع أن نسن مثلها، بل وأحسن منها. المجتمع وهم الشاب. إنه يمتد أمامه صورة جامدة لا تتحرك، وفيه أسماء ورجال ونظم تمتد جذورها وسط الصورة كأنها شجر البلوط، وينظم الجميع أنفسهم حولها على أحسن ما يستطيعون من نظام. ولكن السياسي العجوز يعرف أن الجماعة مائعة، ليست بها جذور ولا أوساط، وإنما تستطيع أية ذرة أن تصبح فجأة مركز الحركة. وترغم ما دونها على أن يدور حولها، كما يفعل كل رجل ذي إرادة قوية. مثل بزستراتس أو كرمويل، لفترة ما، وكل رجل صادق، مثل أفلاطون أو بولس، إلى الأبد. غير أن السياسة تقوم على أسس ضرورية، ولا يمكن أن تعامل باستخفاف.

ما أكثر الجمهوريات التي يتوهمها المدنيون، الذين يعتقدون أن القوانين تصنع المدن، وأن التعديلات الجوهرية في السياسة وفي أساليب المعيشة، وأعمال السكان، وأن التجارة والتربية والدين يمكن أن يصوت لها أو عليها، وأن كل إجراء - حتى إن كان سخيفا - يمكن فرضه على شعب من الشعوب إذا استطعت أن تحصل على الأصوات التي تكفي أن تجعله قانونا. ولكن الحكماء يدركون أن التشريع السخيف حبل من الرمال يتلاشى عند لفه، ويدركون أن الدولة يجب أن تتبع - لا أن تقود - شخصية المواطن وتقدمه، وإن أقوى مغتصب يجب التخلص منه فورا. فلا يبني بناء أبديا سوى أولئك الذين يشيدون على أساس الآراء، كما يدركون أن شكل الحكومة الذي يسود إنما هو تعبير عن لون الثقافة الذي يسود بين السكان الذين يسمحون به. ليس القانون إلا تذكرة. والناس يعتقدون في الخرافة، ويهابون الدستور بعض الشيء، وقوة هذا الدستور تتناسب ومقدار حياته في تكوين الأحياء.

إن الدستور يقوم بيننا ليقول: بالأمس اتفقنا على كيت وكيت، ولكن كيف تحس يا صاح اليوم إزاء هذه المادة من مواده؟ دستورنا عملة ندمغها بصورتنا، وسرعان ما تمحي الصورة، فلا تعرف العملة، وبمرور الزمن تعود إلى دار السكة. ليست الطبيعة ديمقراطية، وليست ملكية مقيدة، ولكنها مستبدة، ولا يخدعها أو يغل ذرة من سلطانها أشد أبنائها سلاطة وقحة. وكلما اشتد الوعي القومي إدراكا تبين أن القانون همجي يتلعثم. إنه لا ينطق بفصاحة، ويجب أن نجعله فصيحا. وفي الوقت عينه لا تقف تربية الوعي القومي عند حد. إن أحلام الصادقين السذج تنبئ بما سوف يحدث. إن ما يحلم به الشباب الشاعر الرقيق، وما يتمناه، وما يصوره اليوم، ولكنه يتفادى السخرية من ذكره علنا، سوف يكون قريبا مما تصمم عليه الهيئات العامة، ثم يصبح ضيما وحقوقا يطالب بها عن طريق النزاع والقتال، ويمسي بعدئذ قانونا ظافرا ومؤسسة تبقى مائة عام، حتى تتخلى بدورها لأمان جديدة وصور جديدة. إن تاريخ الدولة يصور في رسم تخطيطي تقدم الفكر، ويتبع من بعيد الخطوط الدقيقة التي تتألف منها الثقافة والأماني.

إن نظرية السياسة التي استولت على عقول الناس، والتي عبروا عنها أحسن ما استطاعوا من تعبير في قوانينهم وفي ثوراتهم، تعتبر الأشخاص والأملاك الشيئين اللذين من أجل وقايتهما تقوم الحكومة. أما الأشخاص فلهم جميعا حقوق متساوية؛ لأنهم متكافئون في الطبيعة. وهذا الرأي يتطلب - بطبيعة الحال - بكل ما فيه من قوة نوعا من الديمقراطية. وبينما تكون حقوق الجميع - كأشخاص - متساوية، بسبب إمكانهم بلوغ العقل، فإن حقوقهم في الملك تختلف كل الاختلاف؛ فهذا رجل لا يملك إلا ثيابه، وذاك آخر يملك قطرا بأسره. وهذه المصادفة تتوقف أولا على مهارة كل فريق ومزاياه، مهارته التي تنقسم درجات لا حصر لها، وتتوقف ثانيا على الميراث. ولذا نراها تقع وقوعا لا مساواة فيه، ومن ثم فإن ما تجلب من حقوق لا تتوفر فيه بالطبع المساواة. ولما كانت الحقوق الشخصية هي عينها في كل مكان فإنها تتطلب حكومة تقوم على أساس نسبة الملك والمالكين. فمثلا لابان الذي يملك قطعان الغنم والماشية يود أن يرعاها ضابط عند الحدود خشية أن يطردها مديانتز، ويدفع ضريبة لهذا الغرض. أما يعقوب فإنه لا يملك قطعانا من الغنم أو الماشية، ولذا فهو لا يخشى مديانتز ولا يدفع ضريبة للضابط. وقد تبين أن لابان ويعقوب يجب أن يتساويا في حق انتخاب الضابط الذي يحمي شخصيهما، في حين أن لابان وحده - دون يعقوب - هو الذي يجب أن ينتخب الضابط الذي يحمي الأغنام والماشية. فإذا أثير موضوع زيادة الضباط أو مراكز الحراسة، أفلا يجب أن يكون لابان وإسحق وأولئك الذين يتحتم عليهم أن يبيعوا جانبا من قطعانهم لكي يشتروا حماية بقيتها، أحسن في الحكم، وأحق به، من يعقوب الذي - بحكم كونه شابا رحالة - يأكل خبزهم دون خبزه؟

كان المالكون في المجتمع الأول يكونون ثروتهم بأنفسهم، وما دامت تأتي إلى المالكين بالطريق المباشر، فإن أي جماعة منصفة لا يمكن أن يظهر فيها رأي غير أن المالكين يجب أن يضعوا قانون الملكية، والأشخاص قانون الأشخاص.

ولكن الثروة تنتقل بالهبة والميراث إلى أولئك الذين لم يجمعوها. والهبة - في الحالة الأولى - تجعل الثروة حقا للمالك الجديد كما كانت بالعمل ملكا للمالك الأول. أما في الحالة الثانية - حالة الميراث - فإن القانون يجعل الملكية حقا يثبت شرعا في نظر كل إنسان طبقا لتقديره للأمن العام.

غير أنه لم يكن من اليسير أن يتجسم المبدأ الذي يسلم به الجميع دون مشقة، وهو المبدأ الذي يقرر أن المالكين يجب أن يسنوا قانون الملكية، ويسن الأشخاص قانون الأشخاص؛ ذلك لأن الأشخاص والأملاك قد امتزجوا في جميع المعاملات. وأخيرا يظهر أن الرأي العام استقر على أن العدل يقضي بأن تكون للمالكين حقوقا انتخابية أكثر مما يتمتع به غير المالكين، وفقا للمبدأ الإسبرطي الذي «يسمي كل عدل مساواة، ولا يسمي كل مساواة عدلا.»

ولا يبدو هذا المبدأ اليوم واضحا كما بدا في سالف الأيام، وذلك من ناحية لأننا بتنا نشك في هذا الاهتمام الزائد بالملك في القوانين، وهذا الاتجاه في تقاليدنا الذي يسمح للغني بأن يعتدي على الفقير، وأن يبقيه على فقره، ومن ناحية أهم لأن هناك إحساسا غريزيا مهما يكن غامضا مبهما بأن نظام الملك بأسره - بقواعده الراهنة - ضار، وتأثيره على الأشخاص محط بهم مؤخر لهم، وأن الأشخاص حقا هم وحدهم الجديرون باهتمام الدولة، وأن الملك سوف يتبع الأشخاص دائما، وأن الغرض الأسمى للحكومة هو تثقيف الناس، وإذا أمكن تعليم الناس فإن النظم السائدة سوف تسهم في إصلاحهم، وإحساسهم الخلقي سوف يكتب لهم قانون الأراضي.

فإذا لم يكن من اليسير أن نحكم بالإنصاف في هذا الموضوع، فإن الخطر يقل إذا وجهنا التفاتنا إلى دفاعنا الطبيعي. إنا بذلك نكون أحسن حراسة لأنفسنا من رعاية أمثال هؤلاء الحكام الذين نختارهم عادة.

إن الجانب الأكبر من المجتمع يتألف دائما من أشخاص صغار غافلين. أما الشيوخ الذين شاهدوا نفاق المحاكم ورجال الحكم فإنهم يموتون دون أن يتركوا حكمة لأبنائهم؛ فهؤلاء يصدقون صحيفتهم الخاصة كما كان آباؤهم يفعلون وهم في مثل سنهم. وبمثل هذه الأغلبية الجاهلة المخدوعة سرعان ما تنهار الدول. بيد أن هناك حدودا لا تستطيع حماقة الحكام وأطماعهم أن تتخطاها؛ فللأشياء قوانينها، كما للرجال، وتأبى الأشياء التلاعب بها. والملكية سوف تحمى. والقمح لا ينمو إلا إذا زرع ووضع له السماد، ولكن الفلاح لن يزرعه أو يفلحه، إلا إذا كان الترجيح بنسبة المائة إلى الواحد بأنه سوف يجمعه ويحصده؛ فالأشخاص والملك - تحت أية هيئة من الهيئات - لا بد أن يظفروا بالحكم العادل، وسوف يظفرون به. إنهم يمارسون قواهم باطراد كما تمارس المادة جاذبيتها، فإنك إن أخفيت رطلا من التراب بطريقة ماكرة لم يسبقك إليها أحد، وإن شتته أجزاء وجزيئات، وإن أذبته سائلا، وإن حولته إلى غاز، فإنه سوف يزن الرطل دائما، وسوف يجذب ويقاوم غيره من المواد دائما بمقدار ثقل الرطل كاملا. وصفات الشخص، وذكاؤه وقواه المعنوية، لا بد أن تمارس قوتها كاملة، تحت أي قانون من قوانين الاستبداد المطلق، إن لم يكن صراحة ففي الخفاء، وإن لم يكن مع القانون فضده، وإن لم يكن بطريقة سليمة فبأخرى مسمومة، بالحق أو بالقوة.

صفحة غير معروفة