مختارات من مقالات أمرسن

ليو تولستوي ت. 1450 هجري
78

مختارات من مقالات أمرسن

تصانيف

أية حقيقة في التاريخ الحديث أشد بروزا من خلق الرجل المهذب؟ إن الفروسية هي ذاك، والإخلاص هو ذاك. ونصف المسرحيات وكل الروايات في الأدب الإنجليزي من سر فيليب سدني إلى سر والتر سكت يصور هذه الشخصية. إن لفظة الرجل المهذب «الجنتلمان» التي ينبغي منذ اليوم - كلفظ المسيحية - أن تميز هذا القرن والقرون القليلة القادمة، نظرا للأهمية التي تعزى إليها، هذه اللفظة تشير إلى بعض الخصائص الشخصية التي لا يمكن انتقالها. لقد ارتبطت بهذه الكلمات صفات طائشة خيالية، إلا أن اهتمام الناس الثابت به يجب أن يرد إلى الخواص القيمة التي تتضمنها. إن العنصر الذي يوحد بين جميع الأشخاص الأقوياء في كل البلدان، ويجعلهم متفاهمين على وفاق، عنصر محدد، يحس المرء لأول وهلة إذا كان الفرد لا يتسم بميسمه الذي يشبه الأخوية الماسونية. هذا العنصر لا يمكن أن يكون ثمرة عرضية، ولكنه لا بد أن يكون نتيجة مستخلصة من مميزات الشخصية والصفات التي تتوفر في الرجال. ويبدو أن هذه النتيجة ثابتة معينة، كما أن الجو مركب ثابت، في حين أن كثيرا من الغازات لا تتحد إلا لكي تتحلل. يصف الرجل الفرنسي المجتمع الطيب بأنه «ما ينبغي أن يكون»، إنها ثمرة تلقائية للمواهب والمشاعر التي تتصف بها تلك الطبقة عينها التي يتوفر لديها أكبر قسط من النشاط، وتتزعم العالم في هذه الساعة، وربما كانت هذه الخلاصة بعيدة عن الطهارة، بعيدة عن أن تؤلف أبهج أنغام المشاعر الإنسانية وأعلاها، ولكنها خلاصة طيبة بالمقدار الذي يسمح به المجتمع بأسره. إنها تتألف من الروح أكثر مما تتألف من مواهب الناس، وهي نتيجة مركبة يدخل في تركيبها كل قوة عظمى، كالفضيلة، والفطنة، والجمال، والثراء، والنفوذ.

في كل الكلمات التي تستعمل في التعبير عن الآداب الممتازة والتهذيب الاجتماعي شيء من الإبهام؛ لأن الكميات دائمة التغير، وتفترض الحواس أن الأثر الأخير هو الباعث الأول، ولفظة «جنتلمان» ليس لها معنى يناظرها ويعبر عما تقصد من صفات، وكلمة «جنتلتي» أو الكياسة لفظة وضيعة، كما أن كلمة «جنتلس» أو الرقة لفظة بائدة. غير أنا يجب أن نؤكد الفرق في لغتنا العامية بين «الطراز الجديد» وهي عبارة كثيرا ما يكون معناها ضيقا بغيضا، وبين صفة البطولة التي يعنيها الجنتلمان. ومهما يكن من أمر فإن الكلمات المألوفة يجب أن تحترم؛ فسوف تجد أنها تحتوي على جذور الموضوع. والنقطة البارزة في كل هذه الطائفة من الكلمات، كالمجاملة، والفروسية، والطراز الجديد، وما إليها، هي أننا نتدبر الزهرة والثمرة، دون بذرة الشجرة. إنما هدفنا هذه المرة هو الجمال دون القيمة. وموضع السؤال الآن هو النتيجة، وإن كانت ألفاظنا تشير إشارة كافية إلى الإحساس العام بأن المظهر يفرض وجود المادة.

الجنتلمان رجل صادق، سيد أعماله، ويعبر بمسلكه عن تلك السيادة، بطريقة لا تتوقف البتة على الأشخاص أو الآراء أو الملك، ولا تسير في أثرها. وفوق هذه الصفة - صفة الصدق والقوى الحقيقية - تدل كلمة الجنتلمان على الطبيعة الطيبة والخير، والرجولة أولا ثم الرقة. ومن المؤكد أن الفكرة العامة تضيف إلى ذلك شرط اليسر والثراء، غير أن ذلك نتيجة طبيعية للقوة والمحبة الشخصية، فترى الرجال المهذبين يمتلكون ما في العالم من خير ويتصرفون فيه. كل شخص بارز يجب في أوقات الشدة أن ينتهز كثيرا من الفرص كي يدل على ضخامته وقيمته. ومن ثم فإن كل اسم من أسماء الرجال برز من بين الجماهير في عهود الإقطاع يرن في آذاننا كدق الطبول. ولا يزال هذا سائدا اليوم، وفي الزحام الزاحف من المجتمع الكريم يعرف الرجال البواسل الصادقون، ويرتفعون إلى مكانتهم الطبيعية. وقد تنتقل المنافسة من الحرب إلى السياسة والتجارة، غير أن القوة الشخصية سرعان ما تظهر في هذه الميادين الجديدة.

القوة أولا أو تنعدم الطبقة المتزعمة. وفي السياسة والتجارة نجد أن المقاتلين من أجل الجوائز والقراصنة أشد تبشيرا بالنجاح من المتحدثين والكتاب. ويعلم الله أن كل صنوف الرجال المهذبين يقرعون الباب، ولكن لفظة «الرجل المهذب» إذا استعملت بدقة وجدنا أنها تشير إلى الطاقة الأصيلة. إنها تصف الرجل متمسكا بالحق، ويعمل بوسائل لم يلقنه إياها أحد. إن السيد الكريم يجب أن ينطوي على حيوان كريم، على الأقل إلى الحد الذي يجعله يسفر عن مزايا الروح الحيوانية التي لا تبارى. أما الطبقة الحاكمة فيجب أن تتصف بأكثر من ذلك، ولكنها يجب أن تكون لها هذه الصفات، فيشيعون في كل جماعة الإحساس بالنفوذ، الذي ييسر أداء الأشياء التي تفزع الحكماء. إن مجتمع الطبقة قوية العزم في اجتماعاتها الودية البهيجة، مجتمع مليء بالشجاعة والمحاولات التي يجبن أمامها العالم الشاحب. إن الشجاعة التي تبديها البنات أشبه بمعركة لنديزلين أو بمعركة بحرية. إن العقل يعتمد على الذاكرة يستمد منها ما يواجه به هذه الفرق البحرية المرتجلة. غير أن الذاكرة كالمتسول الوضيع الذي يحمل السلة والشارة في حضرة هؤلاء السادة المفاجئين.

إن حكام المجتمع يجب أن يكونوا أكفاء لعمل الدنيا، ونظراء لواجباتهم المتنوعة: رجالا من الطراز القيصري الصحيح، لهم علاقات بعيدة المدى. وما أبعدني عن الاعتقاد في المبدأ المتخاذل الذي يقول به لورد فوكلند، وهو: «إن الحفل يجب أن يذهب إليه اثنان؛ لأن الرجل الجريء سوف يجتاز أدق امتحان.» ومن رأيي أن الجنتلمان هو الرجل الجريء الذي لا يهزم، ولا يسود حقا إلا تلك الطبيعة الغزيرة التي تتمم أي شخص تتحدث إليه. الرجل المهذب عندي يصدر القانون الذي يسير عليه. إنه يفوق القديسين صلاة في الكنائس، وقواد الجيش المستميتين في الميدان، وهو أشد إشراقا من المتظرفين في القاعات. إنه رفيق طيب للقرصان، وهو يساير رجال العلوم، ولذا فمن العبث أن تحصن نفسك ضده. إنه يملك المدخل الخاص لكل العقول، وإن استطعت أن أفر من نفسي استطعت أن أفر منه.

كان الرجال المهذبون المعروفون في آسيا وأوروبا من هذا الطراز القوي: صلاح الدين وسابور وسيد ويوليوس قيصر وسبيو والإسكندر وبركليز وأعظم الشخصيات سلطانا ونفوذا، كانوا يجلسون في مقاعدهم بإهمال شديد، وكانوا في أنفسهم أعلى من أن يقيموا وزنا لأي موقف من المواقف.

ويحسب الناس في حكمهم العام أن الثراء الطائل أمر لازم لكمال رجل الدنيا هذا، ولكنه تابع مادي يسير في حلبة الرقص التي بدأها الأول؛ فالمال ليس ضروريا، ولكن هذه الصلات الواسعة لازمة، وهي صلات تتخطى العادات الطائفية والمذهبية، وترغم الناس من جميع الطبقات على الإحساس بها. وإذا كان الرجل الأرستقراطي صالحا في الدوائر العصرية فقط، وليس صالحا في الأوساط العادية، فلن يكون زعيما من الطراز الجديد. وإذا كان الرجل من عامة الناس لا يستطيع أن يتحدث إلى «الرجل المهذب» حديث الند للند، حتى يدرك هذا الرجل المهذب أنه فعلا من درجته، فإن هذا الأخير لن يخشى له بأس.

كان ديوجنيس وسقراط وأبا منداس رجالا مهذبين تجري في عروقهم أطهر الدماء، وقد آثروا حالة الفقر، في حين أن حالة الثراء كانت ميسورة لهم كذلك. إنني أستخدم هذه الأسماء العتيقة، ولكن الرجال الذين أتحدث عنهم معاصرون لي. إن القدر لا يمن على كل جيل بواحد من هؤلاء الفرسان المبرزين، غير أن كل جماعة من الناس تقدم مثالا من طبقتها؛ وسياسة هذا البلد، وتجارة كل مدينة، يوجهها هؤلاء العاملون الأشداء الذين لا يعبئون بالتبعات، الذين لديهم من قوة الابتكار ما يؤهلهم للقيادة، ومن سعة العطف ما يجعلهم يزاملون الجماهير، ويحبب أعمالهم إليهم.

إن أصحاب الذوق السليم يراعون ما تتجمل به هذه الطبقة من آداب، ويتمسكون بها مخلصين. واجتماع هؤلاء السادة بعضهم ببعض واجتماعهم بأناس يدركون مزاياهم محبب إلى الفريقين وحافز لهما. والصورة الرائعة والعبارات السعيدة التي تصدر عن كل منهم يكررها الآخرون ويحاكونها. وفي رضى خاطف تتلاشى النوافل وتتجدد الجلائل.

إن الآداب الرفيعة تبدو مريعة للرجل الذي لم ينل شيئا من التهذيب. إنها علم رقيق بوسائل الدفاع لكي يدرأ المرء عن نفسه الشرور ويدخل في روع غيره الفزع. فإذا قابلها الطرف الآخر بما يناظرها من مهارة فإنها تفقد حدة سلاحها، فلا تكون هناك مبارزة أو لعب بالسيوف، ويجد الشاب نفسه في وسط شفاف، تكون فيه الحياة لعبة هينة، ولا ينشأ بين اللاعبين أي ضرب من ضروب سوء التفاهم.

صفحة غير معروفة