إن أعمالنا يجب أن تقوم على أساس مادتنا بحساب رياضي دقيق، فإن الطبيعة ليس فيها تقديرات خاطئة، وليس في رطل من الماء المحيط الخضم من الجاذبية أكثر مما في هذا الوزن من الماء في بركة من الماء في منتصف فصل الصيف. كل شيء يسير وفقا لطبيعته وكميته تماما، ولا يحاول شيئا لا يستطيعه، اللهم إلا الإنسان وحده. إنه مدع، يريد أمورا فوق طاقته ويحاولها. قرأت في كتاب يحوي مذكرات إنجليزية: «قال مستر فوكس (لورد هولاند فيما بعد): يجب أن أحصل على الكنز؛ فقد جاهدت في سبيل الحصول عليه، ولا بد لي من الظفر به.» إن زينفون ورجاله العشرة آلاف كانوا متكافئين تماما مع ما حاولوا، فقاموا بأدائه. كانوا جد متكافئين معه، فلم يحسب أحد أنه عمل جليل أو لا يبارى. ومع ذلك فإن هذه الحقيقة لم يتكرر حدوثها، وهي نقطة بارزة في التاريخ الحربي. وكم من الناس حاول هذا العمل بعدئذ، ولم يكن له كفئا. إن قوة العمل لا يمكن أن تستند إلا على الأمر الواقع. إن المؤسسة لا يمكن أن تكون خيرا من مؤسسها.
عرفت رجلا محببا مهذبا تعهد بإصلاح عملي، ولكني مع ذلك لم أستطع قط أن ألمس في شخصه مشروع الإصلاح الذي تناوله. إنه اتخذه بالسماع وبتفهمه من الكتب التي كان يطالعها. كل عمل قام به كان تجريبيا، أو قطعة من المدينة سيقت إلى المزارع، ولكنها ما برحت مدينة، ولم تنقلب حقيقة أخرى، ولم تستطع أن توحي بالحماسة. ولو كان عند الرجل شيء كامن، لو كانت لديه عبقرية رائعة لم يبدها، تؤثر في سلوكه وتوجهه، لترقبنا ظهورها. وليس يكفي أن يرى العقل الشرور وعلاجها. إننا بذلك لا نزال نرجئ وجودنا، ولا نقف على الأرض التي يحق لنا أن نستقر فوقها، ما دامت الفكرة - دون الروح - هي التي تسيرنا. إننا لم نعمل بعد وفقا لوحيها.
هذه الصفات من خواص الحياة. ومن الخواص الأخرى ملاحظة النمو المطرد. يجب أن يكون الناس أذكياء جادين. ويجب عليهم كذلك أن يجعلونا نحس أن لديهم مستقبلا سعيدا ذا نفوذ، ينبسط أمامهم، وتضيء بالفعل تباشير نوره في الساعة الراهنة. إن البطل يساء فهمه وتساء رواية حديثه؛ ولذا فإنه لا يستطيع أن ينتظر لكي يكشف عن أخطاء أي إنسان، إنه في طريقه مرة أخرى، يضيف قوى جديدة وتكريما جديدا للمجال الذي يصول فيه، ويكلفك إزاءه واجبات جديدة، تفلس نفسك، إذا أنت تلكأت عند الأشياء العتيقة، ولم تحافظ على صلتك به، باستزادتك لثروتك. إن الأعمال الجديدة هي وحدها التي تبرر وتفسر الأعمال البالية، التي يطيق النبلاء القيام أو التأثر بها. إذا أساء إليك صديق، فإنك لا تجلس لكي تتدبر الأمر؛ لأنه ينسى ذكر ما حدث ويضاعف قوته لخدمتك، وقبل أن تنهض ثانية تراه يثقل كاهلك بخيراته.
لا يسر المرء أن يفكر في الخير الذي لا يقاس إلا بأعماله. إن الحب لا ينفد، وإذا ما تلاشت ضيعته، وفرغت مخازن غلاله، فإنه برغم ذلك يدخل على النفوس البهجة والغنى، والرجل - وإن استغرق في النوم - يظهر كأنه ينقي الهواء، وكأن بيته يجمل مناظر الطبيعة ويقوي قانونها، والناس دائما يدركون هذه المفارقة. إننا نعرف رجل الخير بوسيلة تختلف جد الاختلاف عن مقدار ما يتبرع به لجمعيات البر. إنما المزايا الوضيعة هي التي يمكن تعدادها. ولتخش حينما يذكر لك أصدقاؤك ما أحسن صنعه، ويذكرون كل شيء. ولكنهم حينما يقفون وعليهم سيما الانكماش والتردد في التقدير وشيء من الكراهية، وحينما يرجئون حكمهم لعدة سنوات مقبلة، حينئذ تستطيع أن تشرع في الأمل.
إن أولئك الذين يعيشون للمستقبل لا بد أن يظهروا دائما محبين لأنفسهم في أعين أولئك الذين يعيشون للحاضر؛ ولذا فإنه مما يبعث على الضحك في الرجل الطيب «ريمر» الذي كتب مذكرات جيته أن يعد قائمة بعطاياه وأعماله الطيبة، كذكره أن مئات من الدراهم قد وهبت لستلنج وهجل وتشبين، وإن عملا مدرارا قد عهد به إلى الأستاذ فوس، وأنه أوجد وظيفة لنهردر عند الدوق العظيم، ومعاشا لماير، وأنه رشح أستاذين للجامعات الأجنبية، إلى غير ذلك. إن أطول قائمة من المنافع المخصصة تبدو قصيرة جدا. وما أفقر الإنسان من مخلوق، إذا قيس كذلك؛ لأن هذه كلها بالطبع أمور استثنائية، والقاعدة في حياة الرجل الطيب والمألوف فيها هي فعل الخير. والبر الصادق من جيته يعرف من القصة التي أملاها الدكتور أكرمان، عن الطريقة التي أنفق بها ثروته: «كل عبارة طريفة مني كلفتني كيسا من الذهب. إن نصف مليون من مالي، والثروة التي ورثت، وراتبي، والدخل الكبير الذي ربحته من مؤلفاتي لخمسين عاما خلت، كل ذلك قد أنفق في سبيل معرفتي ما أنا اليوم عالم به. وقد رأيت غير ذلك ... إلخ.»
وإني أقر أنه من لغط القول والحديث أن أعدد صفات هذه القوة الساذجة الخاطفة، فإنا بذلك نكون كمن يصور البرق بالفحم. ولكني أحب أن أتسلى بهذه الطريقة في هذه الليالي المحلولكة وهذه الأيام الفارغة. ليس هناك ما يمكنه أن يحاكي هذه القوة. إن كلمة حارة تصدر عن القلب تغنيني. وإني أستسلم لها بمشيئتي، والعبقرية الأدبية إزاء نار الحياة هذه باردة كالموت، وهناك من اللمسات ما يبعث الحياة في روحي الثقيلة، ويمنحها الأعين التي تخترق ظلمات الطبيعة. وإني لأجد أني في غاية الثراء حيثما كنت أحسبني فقيرا. ويترتب على ذلك سمو عقلي، يقلل من شأنه في فترة أخرى وجه جديد من أوجه الشخصية. ما أعجب هذا التبادل بين الجذب والتنافر! إن الشخصية تنبذ العقل، ولكنها تثيره، وهي كذلك تتحول إلى فكر، وتبدو في صورته، ثم ينطفئ نورها أمام الوميض الجديد للقيمة الخلقية.
الشخصية هي الطبيعة في أعلى صورها، ومن العبث أن يقلدها أو أن ينازعها أحد؛ فهي قوة لديها شيء من المقاومة، ومن الإصرار، ومن القدرة على الإبداع، مما يحبط كل محاولة لمحاكاتها.
هذه التحفة النادرة تكون على خير صورة حينما لا تمسها يد غير الطبيعة. ويراعى أن أصحاب المصائر العظمية ينسلون إلى الحياة في الظلال، فلا ترقب ولا تهلل أثينا ذات الأعين الألف لكل فكرة جديدة ولكل عاطفة ملتهبة من عواطف الشباب النابغ. أتاح لي فرصة التفكير أخيرا شخصان، وكلاهما من أيفاع الإله العلي القدير. ولما اكتشفت مصدر قداستهما، وسحر ما أوحيا من خيال، بدا لي كأن كلا منهما أجاب بقوله: «ذلك من نشازي؛ فإني لم أستمع قط إلى ناموس قومكم، أو لما يسمونه إنجيلهم، فأضيع بذلك وقتي، ولكني قنعت بفقري الساذج الريفي الخاص. ومن ثم كانت هذه العذوبة. إن عملي لا يذكرك بذلك قط، إنه خلو من ذلك.» وتعلن لي الطبيعة في شخص هذين الرجلين أنها لن تتصف بالديمقراطية في أمريكا الديمقراطية. ما أبعد تكوينهما - وما أشد عزلتهما - عن اضطراب السوق وعن الفضيحة! وفي هذا الصباح فقط بعثت ببضع زهور حوشية من آلهة الغابات هؤلاء. إن فيهم ترفيها عن الأدب، هذه الجرعات السائغات من ينابيع الفكر والعاطفة، فكأننا نقرأ في عصر الصقل والنقد الأسطر الأولى من النثر والنظم المكتوب لأمة من الأمم. ما أشد ما يفتن المرء في إخلاصهم للكتب التي يؤثرون، سواء كانت لإيسكلس أو دانتي أو شكسبير أو سكت، فهم يشعرون أن لهم في هذا الكتاب أو ذاك ضلعا؛ فمن يمس الكتاب يمسهم، وبخاصة العزلة التامة للناقد، أو برج الفكر الذي يكتب منه، لا يحس بالعيون التي قد تقرأ هذه الكتابة. هل يستطيعون بعد ذلك أن يحلموا كالملائكة ولا يتيقظون للموازنات، ولما يقوله المنافقون لهم! ومع ذلك فإن من الطبائع ما يطيب فلا يفسدها الثناء، وكلما بلغ وتر التفكير الأعماق، فليس ثمت خطر من الغرور. إن الأصدقاء الموقرين يحذرونهم من خطر انقلاب الرأس من أثر دق الطبول، بيد أنهم يستطيعون الابتسام.
أذكر سخط رجل فصيح من طائفة «النظاميين» من التحذير الرقيق الذي ألقاه دكتور في اللاهوت، وذلك حينما قال الرجل: «إن الرجل - يا صاح - لا يمكن أن يثنى عليه أو يساء إليه.» ولكن علينا أن نتسامح في النصائح، فهي طبيعية جدا. وأذكر أن الفكرة التي طرأت لي حينما أتى إلى أمريكا رجال غرباء عنها عباقرة روحانيون، أذكر أن تلك الفكرة كانت: هل وقعتم فريسة بحضوركم إلى هنا؟ بل - وقبل هذا - أجيبوني عن هذا السؤال: «هل يمكن لأحد أن يفترسكم؟»
وكما قلت من قبل إن الطبيعة تحتفظ بين يديها بهذه الميزات الكبرى، ومهما زعمت خطتنا الدينية وتربيتنا أن لها نصيبا من الفضل، ومهما علمتنا أن النواميس تشكل المواطن، فإن الطبيعة تسير سيرتها، وتخطئ أحكم الحكماء. إنها تستخف بالأناجيل والأنبياء، كرجل لديه الكثير مما يستطيع أن ينتج، وليس لديه من الوقت فسحة لشيء منه.
صفحة غير معروفة