لقد تعلمنا أننا لا نرى رؤية مباشرة، ولكنا نرى بالوساطة، وأنه ليست لدينا وسيلة نصلح بها هذه العدسات. ربما كانت لهذه العدسات الإنسانية قوة خالقة، وربما لم تكن هناك مرئيات، ولكنا عشنا ذات يوم فيما رأينا. أما الآن فإن ضراوة هذه القدرة الجديدة التي تهدد بالاستيلاء على كل شيء، تشغلنا؛ فالطبيعة، والفن، والأشخاص، والآداب، والديانات، وغير ذلك من أشياء، يتلاشى على التتابع، وليس الإله إلا فكرة من أفكارها. وتكون الطبيعة والأدب ظواهر ذاتية. وكل شر وكل خير ظل نلقيه. إن الطريق مليء بمظاهر الإذلال للمتكبرين. وكما أن المتحذلق قد حاول أن يكسو خدمه في زيه ويجعلهم يخدمون ضيوفه على المائدة، فكذلك الكروب التي تصدر عن القلب السيئ كفقاعات، تتخذ في الحال أشكال السيدات والسادة في الطريق، وأصحاب الحوانيت والحانات في الفنادق، وتهدد أو تهين كل ما يقبل التهديد أو الإهانة فينا. وكذلك الحال مع الأوثان التي نولع بها. إن الناس ينسون أن العين هي التي تخلق الأفق، وعين العقل الباحثة هي التي تجعل من هذا الرجل أو ذاك طرازا أو ممثلا للإنسانية باسم البطل أو القديس. إن يسوع «الإنسان المؤله» رجل طيب، اتفق كثير من الناس على أن هذه القوانين البصرية تنطبق عليه. وبالمحبة من جانب، وبالإمساك عن الاعتراض من جانب آخر، استقر الأمر مؤقتا على أن ننظر إليه وسط الأفق، ونعزو إليه الخواص التي يتصف بها أي امرئ ننظر إليه هذه النظرة. غير أن الحب أو الكراهية مهما طال أمده له نهاية سريعة. إن النفس العظيمة الوهاجة التي تمتد جذورها إلى الطبيعة المطلقة، تقتلع كل الوجود النسبي وتدمر مملكة المحبة والصداقة الفانية. إن الزواج (فيما يسمى العالم الروحي) أمر مستحيل، بسبب المفارقة بين كل ذات وكل موضوع؛ فالذات تستقبل الألوهية، ولا بد أنها تحس عند كل موازنة أنها تعظم بتلك القوى الخفية. ولا بد من الإحساس بأثر المادة، بوجودها إن لم يكن بطاقتها، ولا يمكن لأية قوة من قوى العقل أن تنسب إلى الموضوع الألوهية الصحيحة التي تغفو أو تتيقظ دائما في كل ذات. ولا تستطيع المحبة قط أن تسوي بين قوة الوعي وقوة حلوله في الأشياء. وسوف توجد دائما الفجوة بين كل «أنا» و«أنت»، كما توجد بين الأصل والصورة. إن الكون هو عروس الروح. وعطف الفرد عطف من جانب واحد. الكائنان البشريان كالكرتين لا يتماسكان إلا في نقطة واحدة. وطالما هما على اتصال فإن جميع النقاط الأخرى في كل من الكرتين تكون في حالة سكون. لا بد أن يأتي دورها كذلك، وكلما طال بقاء نوع من أنواع الاتحاد، زاد ما تحصل عليه الأجزاء التي لم تتحد من شدة الشوق.
للحياة أن تتخذ لنفسها صورة، ولكنها لا يمكن أن تتجزأ أو تتضاعف. وأي غزو لوحدتها يكون مدعاة للفوضى. إن الروح ليست توءما، ولكنها فريدة، وهي - وإن تكشفت كطفل في الزمان، وطفل في المظهر - ذات قوى فاصلة عالمية، ولا تسمح بحياة أخرى إلى جانبها. إن كل يوم، وكل عمل يكشف عن الألوهية التي ساء اختفاؤها. إننا نعتقد في أنفسنا بما لا نعتقد في غيرنا. ونسمح بكل شيء لأنفسنا، وما نسميه إثما عند الآخرين هو بالنسبة إلينا تجربة. ومن أمثلة إيماننا بأنفسنا أن الناس لا يتحدثون قط عن الجريمة باستخفاف كما يظنون. أو أن كل امرئ يفسح لنفسه في مجال الأمن، بدرجة لا يسمح لغيره بها. إن العمل يبدو مختلفا كل الاختلاف في داخله عن خارجه، وفي نوعه عن عواقبه. إن القتل عند القاتل ليس من الأفكار المخربة كما هو عند الشعراء وأصحاب الخيال. إنه لا يزعزعه، ولا يصرفه عن ملاحظته العادية للتوافه. إنه عمل من اليسير جدا تأمله، ولكنه يدل في عاقبته على أنه ضجيج مزعج، وأنه يدعو إلى اضطراب جميع العلاقات. والجرائم التي تصدر عن الحب خاصة تظهر عدلا وحلالا في عين مرتكبيها، ولكنها - بعد ارتكابها - تبدو مدمرة للمجتمع. وفي النهاية لا يعتقد إنسان أنه يمكن أن يضل، أو أن الجريمة سوداء كما هي عند الأثيم؛ لأن العقل في حالتنا الخاصة يشكل الأحكام الخلقية؛ إذ إنه ليست هناك جريمة للعقل؛ فهو مناقض للشرائع أو فوقها، ويحكم على القانون كما يحكم على الحقيقة. يقول نابليون معبرا بلغة العقل: «إن ذلك أسوأ من الجريمة، إنه خطأ فاحش.» الدنيا لدى العقل مشكلة في الرياضة أو في علم العدد، وليس له شأن بالثناء أو الهجاء وبكل العواطف الضعيفة. كل سرقة أمر نسبي. فإن تعرضت للمطلق، فبربك من ذا الذي لا يسرق؟ إن القديسين يحزنون لأنهم ينظرون إلى الإثم (حتى حينما يتأملون) من وجهة نظر الضمير، ولا ينظرون إليه من وجهة نظر العقل، وهو اضطراب في الفكر. إنك إن نظرت إلى الإثم بالفكر وجدته شيئا صغيرا أو قليل الشأن، وإن نظرت إليه بالضمير أو الإرادة، ألفيته فسادا أو سوءا. العقل يسميه ظلا، أو انعداما للضوء، ولا يراه جوهرا. أما الضمير فيحسه جوهرا، أو شرا لا بد منه. إنه ليس كذلك: له وجود موضوعي، وليس له وجود ذاتي.
وهكذا فلا بد للكون من أن يتلون بلوننا، ولكل شيء أن يخضع بدوره للذات. والذات موجودة، وهي تتضخم. وكل شيء يتخذ مكانه إن عاجلا أو آجلا. أنا كائن، ولذا فإني أرى. وأيا كانت اللغة التي نستخدمها، فإننا لا نستطيع أن نقول شيئا إلا ما نحن عليه.
كان هرميز وكادمس وكولمبس ونيوتن وبونابرت وزراء عقولهم. وبدلا من أن نحس الفقر عندما نلتقي برجل عظيم، دعنا نعامل القادم الجديد كأنه عالم بطبقات الأرض عابر، يمر بضيعتنا، ويطلعنا على نوع جيد من الأردواز أو حجر الجير أو فحم الأنثرسيت في أحراشنا ومراعينا. والعمل الجزئي لكل عقل جبار في اتجاه ما عبارة عن منظار مقرب للأشياء التي يتسلط عليها. وكل جانب آخر من جوانب المعرفة لا بد أن يصل إلى المبالغة عينها قبل أن تكمل استدارة الروح.
هل تشهد تلك القطيطة تتابع ذيلها في حركة رشيقة؟ إن استطعت أن تنظر بعينيها ربما رأيتها محاطة بمئات الأشخاص الذين يمثلون مسرحيات معقدة، من مهازل ومآسي، فيها أحاديث مطولة، وشخصيات عديدة، وكثير من تقلبات القدر، وفي الوقت ذاته ليست سوى قطيطة وذيلها. متى يسقط عنا القناع، فيتلاشى صوت الدفوف والضحكات والصياح، فنتبين أنا كنا نمثل وحدنا؟ ذات وموضوع؛ ما أروع أن تتم الدورة الكهربية، ولكن الجسامة لا تزيدها شيئا. فماذا يهم لو كان الموضوع عن كبلر والكرة، أو كولمبس وأمريكا، أو عن قارئ وكتابه، أو القطيطة وذيلها؟
حقا أن إلهة الفنون جميعا والحب والدين تمقت هذه التطورات، وإنها تحاول أن تجازي الكيمائي الذي ينشر في الصالون أسرار المعمل. ولا نستطيع أن نقلل من شأن الضرورة التي يحتمها تكويننا لرؤية الأشياء على أوجه شخصية أو ملونة بلون مزاجنا. ومع ذلك فإن الله يستوطن هذه الصخور الجرداء. وهذه الحاجة هي التي تودع في الأخلاق الفضيلة الكبرى، فضيلة الثقة بالنفس. يجب أن نستمسك بهذا العيب، مهما جلب علينا من عار، وأن يشتد استمساكنا بمحورنا بعودتنا إلى أنفسنا في قوة وعزم بعد اندفاعنا إلى العمل. إن حياة الحق باردة، وهي حتى الآن مفجعة، ولكنها لا تخضع للدموع والندم والاضطراب. إنها لا تحاول أن تعمل عمل شخص آخر، وأن تتخذ لنفسها حقائق فرد آخر. ومن دروس الحكمة الأساسية أن تميز ما لك مما لغيرك. تعلمت أني لا أستطيع أن أتصرف في حقائق الآخرين. ولكني أملك لحقائقي المفتاح الذي يشجعني ضد كل ما ينكرون، وتعلمت كذلك أنهم يملكون المفاتيح لحقائقهم. إن الشخص العطوف يقع في ورطة السابح بين جماعة من الغرقى. كلهم يتشبثون به، فإن هو قدم ساقا أو إصبعا أغرقوه. إنهم يرغبون في النجاة من أضرار رذائلهم ، لا من رذائلهم أنفسها. إن البر يضيع هباء إذا نحن بذلناه في سبيل هذه الأعراض الضعيفة. والطيب الحكيم المتمكن يقول: «اخرج من هذا .» كأول شرط من شروط النصيحة.
وفي بلادنا هذه أمريكا التي يكثر فيها الكلام تفسدنا طبيعتنا الطيبة واستماعنا إلى كل جانب. وهذا الإذعان يزيل القدرة على أن يكون المرء عظيم الفائدة. لا ينبغي للمرء أن يتمكن من النظر إلا رأسا وإلى الأمام. وانصراف الانتباه هو الرد الوحيد على إصرار الآخرين على الاستهتار. وقد نعير هؤلاء آذاننا، ولكن لكي نستخف بما يطلبون. هذا رد مقدس، ولا يترك مجالا للعدول عنه أو لجمود التفكير. ترى في تصوير فلاكسمان ليومنديز، الذي ذكره أيسكلس، أن أورستيز يتضرع إلى أبولو بينما تنام آلهة الغضب عند الأعتاب. إن وجه الآلهة يعبر عن شيء من الندم والرأفة، ولكنه هادئ لاعتقاده في عدم إمكان التوفيق بين الاتجاهين. لقد ولد في ظروف سياسية أخرى، في عالم الخلود والجمال. والرجل الذي عند قدميه يطلب إليه أن يهتم باضطراب الدنيا، وهو ما لا تستطيعه طبيعته. ويومنديز يعبر باستلقائه عن هذا الفارق تعبيرا قويا. إن الإله مثقل بمصيره المقدس.
الوهم، والمزاج، والتتابع، والظاهر، والمباغتة، والواقعية، والذاتية، هذه كلها خيوط في نسيج الزمن، وهي سادة الحياة. ولا أجرؤ على التفكير في ترتيبها، ولكني أذكرها كما تخطر لي. وأنا أعلم من أن أزعم الكمال لصورتي، إنما أنا جزء، وهذا جزء مني. وأستطيع في ثقة كبرى أن أعلن قانونا من القوانين، يتخذ لنفسه صورة وهيئة، ولكني ما زلت أصغر بقرون من أن أضع دستورا. إنني ألغط لساعتي فيما يتعلق بالسياسة الأبدية. ولم يكن عبثا ما رأيت من صور كثيرة جميلة. ولقد عشت في زمن عجيب، ولست كما كنت ناشئا في سن الرابعة عشرة، بل ولست كما كنت منذ سبع سنوات. ولست أعبأ بمن يسأل وأين الثمرة؟ إنني أكتفي بالثمرة الخاصة. هذه ثمرة من الثمار، وهي أني لا أتوقع نتيجة كبرى من التأملات والمشورات وجمع الحقائق. وإني لأشعر بالحسرة لو توقعت نتيجة لهذا البلد ولهذه المقاطعة، أو أثرا واضحا في الشهر الحالي والسنة الراهنة. إنما الأثر عميق عالمي كالسبب نفسه. إنه يفعل فعله في عصور لا تكون فيها الفترة القصيرة من حياة المرء شيئا يذكر. كل ما أعرف هو الاستقبال. أنا كائن وأنا مالك، ولكني لا أحصل على شيء، وحينما أتصور أني ظفرت بشيء أجد أني لم أظفر به. إنني أعبد «الحظ» الأعظم معجبا به. وما أكثر ما استقبلت، حتى أصبحت لا أضيق باستقبال هذا أو ذاك من الأمور مهما تكن غزارته. وإني لأقول للعقل العبقري هذا المثل بعد استئذانه: «ما يدخل الطاحون يستحيل إلى ملايين الأجزاء.» وعندما أتلقى هبة جديدة لا أميت شهوة جسدي بالتقشف لكي يحصل التعادل؛ لأنني إن مت لا أستطيع هذا التعادل. لقد جاوزت المنفعة القيمة في اليوم الأول، وظلت تجاوزها منذ ذلك الحين. وما أحسب هذه القيمة عينها إلا جزءا مما أتلقاه.
وكذلك يبدو لي أن التلهف على أثر ملموس أو عملي ضرب من ضروب الكفران. وأنا جاد جدا في رغبتي في الاستغناء عن هذا الأثر الذي لا ضرورة له. إنما تظهر لي الحياة خيالا لا أثر له. إن أشق عمل وأشده خشونة خيالي كذلك، والأمر كله اختيار بين أحلام هادئة وأحلام مزعجة. إن الناس يحطون من قدر المعرفة والحياة العقلية ويحثون على العمل. وأنا قانع جدا بالمعرفة لو استطعت أن أعرف. وتلك تسلية عظمى، وتكفيني أمدا طويلا.
إن قليلا من المعرفة يساوي قيمة هذه الدنيا. إنني أستمع دائما إلى قانون «أدراستيا» الذي يقول بأن «كل روح حصلت على حقيقة ما، يجب أن تكون في مأمن من الأذى حتى فترة أخرى.»
صفحة غير معروفة