مختارات من مقالات أمرسن

ليو تولستوي ت. 1450 هجري
68

مختارات من مقالات أمرسن

تصانيف

وسر خديعتنا ينحصر في أننا نعتقد في ضرورة تتابع الأحوال العقلية أو الموضوعات. إننا نحب أن نرسو بسرور، غير أن المرسى أرض غير ثابتة. وهذه الحيلة البادية من الطبيعة أقوى مما نحتمل. حينما أنظر في المساء إلى القمر والنجوم أبدو ساكنا، وتبدو مسرعة. إن حبنا لما هو واقعي يجذبنا إلى الثبات، ولكن صحة البدن لا تتوفر إلا مع الحركة، وصحة العقل لا تتوفر إلا في التنوع أو في سهولة الربط بين الأشياء. إننا نحتاج إلى تغير الأشياء. وإذا وهبنا أنفسنا لفكرة واحدة فسرعان ما يدب الملل في نفوسنا. إننا قد نساكن المجانين، ويتحتم علينا أن نمازجهم، حينئذ يقتل الحديث. اشتد إعجابي مرة بمونتيني حتى حسبت أني لن أحتاج إلى كتاب آخر، وقبل ذلك بشكسبير، ثم بفلوطارخس، ثم بأفلوطين. ومرة بالفيلسوف بيكون، وبعدئذ بجيته، بل وببتين، ولكني الآن أقلب صحف أي منهم بفتور، وإن كنت ما زلت أقدر لهم عبقرياتهم. وكذلك الحال في الصور. كل منها تجتذب الانتباه بشدة في وقت ما، بيد أنها لا تستطيع أن تحتفظ بهذه الجاذبية، وإن كنا نود لو لبثنا مستمتعين على هذا الوجه. ما أقوى شعوري نحو الصور، حتى إنك لو أنعمت النظر في واحدة منها لا بد أن تستأذنها في الانصراف؛ لأنك لن تراها مرة أخرى. تعلمت دروسا طيبة من الصور التي أصبحت من ذلك الحين أشاهدها دون عاطفة أو ملحوظة. يجب أن يستنتج المرء شيئا من الرأي الذي يعبر عنه حتى الحكماء بشأن كتاب أو حادث جديد. إن آراءهم تعطيني أنباء عن حالاتهم العقلية، وحدسا غامضا بعض الشيء عن الحقيقة الجديدة. ولكن لا ينبغي لي أن أثق فيها باعتبارها العلاقة الدائمة بين تلك العقلية وذلك الشيء. يسأل الطفل أمه قائلا: «لماذا لا أحب القصة يا أماه كما أحببتها حينما قصصتها لي بالأمس؟» وا أسفاه يا بني، إن الأمر كذلك حتى مع أقدم ملائكة المعرفة. ولكن هل يجيب سؤالك أن نقول: ذلك لأنك ولدت للكل، وهذه القصة مسألة فردية؟ إن سبب الألم الذي يسببه لنا هذا الكشف (وهو كشف لا يتم إلا متأخرا فيما يتعلق بأعمال الفن والفكر) هو عينه المأساة التي تنجم عنه فيما يتعلق بالأشخاص والصداقة والمحبة.

هذا الجمود وانعدام المرونة الذي نجده في الفنون، نجده كذلك عند الفنان، وهو عندئذ أشد إيلاما. ليست في الناس قدرة على التوسع. يبدو أصدقاؤنا لنا أول الأمر كممثلين لآراء معينة، ولكنهم لا يتخطونها أو يتجاوزونها قط. إنهم يقفون على حافة محيط الفكر والقوة، ولكنهم لا يتقدمون قط تلك الخطوة الوحيدة التي تأتي بهم إلى هناك.

ما أشبه المرء بقطعة من سارية لبرادور، لا تجد لها بريقا إذا قلبتها بين يديك، حتى تبلغ زاوية معينة. حينئذ تجد لها ألوانا غزيرة جميلة. ليس بين الناس اتفاق أو قاعدة عامة. وإنما لكل امرئ موهبته الخاصة، وإنما تفوق الرجال الناجحون؛ لأنهم يحذقون الوقوف حيثما وحينما يغلب استخدام هذه الموهبة. إننا نفعل ما ينبغي لنا أن نفعله، ونطلق عليه أحسن ما نستطيع من أسماء، ونود أن نظفر بالثناء على أننا كنا نرمي إلى النتيجة التي ترتبت . لا أستطيع أن أذكر أية صورة لإنسان لم يكن زائدا عن الحاجة في وقت ما. ولكن، أليس هذا مما يدعو إلى الحسرة؟ إن الحياة لا تستحق أن تنال، إذا كنا نعبث بها.

إن الاتزان الذي ننشده يحتاج بالطبع إلى المجتمع بأسره. إن العجلة ذات الألوان المتعددة يجب أن تدور بسرعة زائدة كي تبدو بيضاء. إننا نتعلم شيئا ما حينما نتحدث في حماقة شديدة أو نقص معيب. وموجز الكلام أننا مهما فقدنا في ناحية ما فنحن دائما من فريق الفائزين. والقداسة تقع كذلك خلف فشلنا وحماقاتنا. إن ألعاب الأطفال عبث لا معنى له، ولكن هذا العبث له قيمة تربوية كبرى. وكذلك الحال في أضخم الأشياء وأكثرها جدا، في التجارة، والحكومة، والكنيسة، والزواج، وكذلك في تاريخ خبز كل إنسان، والطرق التي يحصله بها. إن القوة التي لا تسكن في رجل أو امرأة، ولكنها تصدر في لحظة من هذا، وفي لحظة أخرى من ذاك، أشبه ما تكون بالطائر الذي لا يستقر في مكان، ولكنه يثب دائما من غصن إلى غصن.

ولكن أي عون لنا من هذه الزخرفة في الكلام وهذه الحذلقة؟ أي عون لنا من الفكر؟ ليست الحياة جدلا. وقد تلقينا - فيما أحسب - في هذه الأيام دروسا كافية عن سخافة النقد. ما أكثر ما فكر وكتب شبابنا في العمل والإصلاح، وبرغم كل ما كتبوا، فإن العالم - وهم أنفسهم - لم يتقدم خطوة إلى الأمام. إن تذوق الحياة تذوقا فكريا لن يحل محل النشاط العضلي. إن المرء إذا فكر في سهولة انزلاق كسرة الخبز في حلقه، مات جوعا. في «ميدان التربية» احتلت أنبل نظرية عن الحياة أجمل أجسام الشبان والعذارى، فكانت عاجزة كل العجز، مكتئبة حزينة. إنها لا تجمع ولا تفرق طنا واحدا من الحشائش الجافة، ولا تجهز جوادا، ثم إنها تترك الرجال والعذارى شاحبي اللون جياعا. ما أفكه المقارنة التي عقدها أحد الخطباء السياسيين بين وعود أحزابنا وطرق الغرب، التي تبدأ فخمة، تنبت على جوانبها الأشجار، كي تغري المسافر، ولكنها سرعان ما تضيق ثم تضيق، حتى تنتهي بآثار أقدام السنجاب، وتتسلق إحدى الأشجار. وهذا شأن الثقافة معنا. إنها تنتهي بدوار الرأس.

ما أشد كآبة الحياة وما أشد عقمها عند أولئك الذين كان بريق الوعود في إبانهم يبهر عيونهم منذ أشهر قلائل. «لم يعد الآن هناك طريق مستقيم للعمل، ولم يبق بين أهل أيرانس أي ثقة في النفس.» لقد شبعنا من الاعتراضات والنقد. لكل طريق من طرق الحياة ما يعترضه، والحكمة العملية تتخذ لها وسط الاعتراضات التي تتحوطها من كل جانب طريقا لا يعبأ بشيء. إن هيكل الأشياء كله يعلمنا ألا نأبه بشيء. لا تربك نفسك بالتفكير، واشرع في أداء عملك في أي مكان. ليست الحياة ذهنية أو نقدية، ولكنها صلبة شديدة. خيرها الأكبر يناله قوم اعتدل مزاجهم فاستطاعوا أن يستمتعوا بما وجدوا، بغير سؤال. إن الطبيعة تمقت التطلع، وتعبر أمهاتنا عن حكمتها حينما يقلن لأطفالهن: «كلوا طعامكم، ولا تتحدثوا عنه.» السعادة أن تملأ ساعتك، تملأها فلا تترك فيها ثغرة لندم أو رضى. إننا نعيش بين السطوح، وفن الحياة الحق هو أن نحسن الانزلاق عليها. في ظل أعتق التقاليد وأشدها قدما يفلح المرء ذو القدرة الطبيعية كما يفلح في أحدث عالم، وذلك بمهارته في تناول الأشياء وعلاجها. إنه يستطيع أن يقف ثابتا في أي مكان. والحياة نفسها مزيج من القوة والصورة، ولا تحتمل أية زيادة في أحدهما. والحكمة في أن تقضي لحظتك، وأن تجد نهاية الرحلة في كل خطوة من خطوات الطريق، وأن تعيش أكبر عدد من الساعات الطيبة: ليس من شأن الناس، ولكنه من شأن المتعصبين. أو قل - إن شئت - إنه من شأن علماء الرياضة، أن يقولوا إننا إذا نظرنا إلى قصر الحياة، لم نأبه في هذا الأمد القصير أن نهبط إلى ذل الحاجة أو نعلو عن الأنظار. وما دام شأننا باللحظات، فلنحسن تدبيرها. إن خمس دقائق اليوم توازي عندي خمس دقائق في العصر الذهبي المرتقب. لنكن اليوم متزنين حكماء مالكين لأنفسنا. ولنحسن معاملة الرجال والنساء، نعاملهم كأنهم حقائق، وربما كانوا كذلك. يعيش الناس في الأوهام، كأنهم سكارى، أيديهم مرتخية مرتجفة لا تقوى على عمل ناجح. إنها عاصفة من الأوهام، والثقل الوحيد الذي أعرف أنه يوازنها هو تقدير الساعة الراهنة. وبغير أي ظل من ظلال الشك، ووسط هذا الدوار من المظاهر وشئون السياسة، يزداد يقيني بأنه لا ينبغي لنا أن نؤجل أو نهمل أو نؤمل، بل يجب علينا أن نعدل في أحكامنا حيث نحن، ومع أي ممن نعامل، فنقبل ظروفنا كما هي ورفاقنا كما هم، مهما كانوا متواضعين أو منفرين؛ فهم الوسطاء المجهولون الذين وكلت إليهم الدنيا إبلاغ كل مسراتها لنا. فإن كان هؤلاء على ضعة وخبث، كان لإسعادهم - وهو آخر ما تصبو إليه العدالة - صدى في القلب أوقع من صوت الشعراء ومن العطف العابر الذي يبديه الأشخاص الذين نرمق إليهم بإعجاب. وأعتقد أنهم مهما احتمل الرجل المفكر من عيوب رفقائه وسخافاتهم، فإنه لا يستطيع - دون تكلف - أن ينكر على أية جماعة من الرجال والنساء نوعا من الإحساس له قيمته الكبرى. إن الأجلاف والمستهترين لديهم شعور بالسمو، إن لم يكن لديهم عطف، وإنهم ليمجدون هذا الشعور بطريقتهم الهوائية العمياء، ويخلصون له الولاء.

إن الشباب الرقيق يحتقر الحياة، ولكني وأمثالي ممن لا يشكون التخمة، وممن يحسبون يومهم خيرا خالصا محسوسا، ترى أنه من فرط الأدب أن يبدو المرء مستخفا وأن يطلب الرفاق. إن العطف يبعث في شيئا من القلق ورقة الإحساس، ولكنك إن تركتني وحيدا، استمتعت بكل ساعة وما تجلبه لي، واستمرأت ما أجد من طعام، كما أستمرئ الأحاديث العتيقة في الحان. وإني لشكور للقليل من الرحمة يصيبني. إنني وازنت بيني وبين أحد أصدقائي الذي يتوقع من الدنيا كل شيء، ويخيب رجاؤه إذا قصر أي شيء عن خير ما يكون عليه، فألفيتني أبدأ عند الطرف الآخر، لا أتوقع شيئا، وأنا دائما شاكر جدا لقدر معتدل من الطيبات. أنا أقبل طنين الاتجاهات التي تعترضني ورنينها. وأستطيع أن أحتمل مدمني الخمور وثقال الظل. إنهم يضفون ظلا من الواقع على الصورة المجاورة التي لا يستغني عنها المظهر الذي سرعان ما يختفي كالشهاب. أستيقظ في الصباح، وأجد الدنيا القديمة، والزوجة، والأطفال، والأم، وكنكورد وبوسطن، والعالم الروحي العزيز الحبيب، بل والشيطان العزيز الحبيب على مقربة مني. إذا نحن أخذنا ما وجدنا من الطيبات، دون سؤال، فسوف نجد الكثير المتراكم. إن الهدايا العظيمة لا تنال بالتحليل. كل شيء طيب في الطريق العام. والمنطقة الوسطى من الكون هي المنطقة المعتدلة. نستطيع أن نتسنم الذروة الرقيقة الباردة، ذروة الهندسة البحتة والعلم لا حياة فيه، كما نستطيع أن نستغرق في الحياة الحسية. وبين هذين النقيضين خط استواء الحياة، والفكر، والروح، والشعر، وهو نطاق ضيق. ثم إن كل شيء طيب - في الحياة العملية العامة - تجده في الطريق العام. إن جامع الصور يتطلع في جميع محلات الصور في أوروبا، باحثا عن منظر طبيعي لبوسان، أو عن رسم بالرصاص لسلفاتور، في حين أن «التحول» و«الحكم الأخير» و«تناول القديس جيروم» وما شابه ذلك من صور لما وراء العقل، تجدها على حوائط الفاتيكان وأوفيزي واللوفر حيث يستطيع كل عابر أن يشاهدها. ولا أذكر بالطبع صور الطبيعة في كل طريق، أو مغرب الشمس أو مشرقها كل يوم، والتماثيل الطبيعية لجسم الإنسان الذي لا يغيب عن أنظارنا قط.

في مزاد عام في لندن اشترى حديثا أحد الهاوين كلمة بخط شكسبير بمبلغ مائة وسبعة وخمسين جنيها، في حين أن التلميذ في المدرسة يستطيع أن يقرأ «هاملت» دون مقابل، ويستطيع أن يكتشف أسرارا لها أهميتها القصوى في هذه المسرحية لم تنشر بعد. أظن أنني لن أقرأ سوى أشد الكتب ألفة للناس: الإنجيل وهومر ودانتي وشكسبير وملتن. فلماذا إذن نعدو هنا وهناك باحثين عن الأركان والخفايا؟ إن الخيال يستمتع بالصناعات الهندية الخشبية، وبمن يتصيدون النحل والحيوانات ذات الفراء. إننا نتوهم أننا غرباء. ولسنا مستأنسين استئناسا صميما فوق هذا الكوكب كالرجل الهمجي والوحش الكاسر والطير، ولكنا نستبعد هؤلاء كذلك، نستبعد كل مخلوق متسلق أو طائر أو زاحف أو مريش أو يمشي على أربع. إنك إن شاهدت الثعلب والفأر الجبلي والصقر والشنقب والعجاج عن كثب لم تجد لها جذورا في الأرض أعمق من جذور الإنسان، وألفيتها مجرد مخلوقات ساكنة عابرة فوق هذه الأرض. ثم تأتي الفلسفة الذرية الجديدة فتظهر فجوات سحيقة بين ذرة وأخرى، وتبين أن الدنيا كلها في الخارج، وليس لها داخل.

الحياة الوسطى خير حياة. الطبيعة كما نعرفها ليست قديسا. وهي لا تؤثر بالفضل أضواء الكنيسة، أو الزاهدين، أو الجنتو، أو آكلي الحنطة؛ فهي تأتي آكلة شاربة آثمة. وأعزاؤها العظماء والأقوياء والجمال، ليسوا أبناء سنتنا، ولم يتخرجوا في مدرسة الأحد، ولا يزنون طعامهم، ولا يستمعون إلى الوصايا في كل حين. فإن أردنا أن نكون أقوياء مع قوتها، فلا ينبغي لنا أن نخفي ضمائر مكتئبة، نستعيرها كذلك من ضمائر الأمم الأخرى. يجب أن نقيم الفعل الحاضر القوي في وجه كل إشاعات الغضب، ماضيها ومستقبلها.

هناك أشياء كثيرة لم تستقر بعد، ومن المهم جدا أن تستقر، وإلى أن تستقر يجب أن نفعل كما نفعل. وبينما يستمر الجدل على موازنة التجارة، ولا ينتهي قبل انقضاء قرن أو قرنين، تستطيع «نيو إنجلند» وإنجلترا القديمة أن تفتح محلها التجاري. وقد نناقش قانون حق التأليف، وحق التأليف الدولي، وفي خلال ذلك نبيع كتبنا بقدر ما نستطيع. وقد نبحث في ضرورة الأدب، وفيما يبرره، وفي قانونية تسجيل فكرة من الأفكار. وقد يحتدم الجدال في موضوع ما، وبينما تستعر المعركة فعليك أيها الباحث العزيز أن تنكب على عملك السخيف، وأن تضم سطرا في كل ساعة، وتضيف سطرا بين الحين والحين. وقد يدور النزاع حول امتلاك الأرض، وحق الملكية، وقد نبحث في التقاليد، وقبل أن نستقر على رأي عليك أن تحرث بستانك، وأن تنفق ما تكسب هبات وعطايا في كل غرض جدي جميل. الحياة نفسها فقاعة وشك وسبات في سبات. هبها، بل وهب أكثر مما تريد. أما أنت يا حبيب الله، فعليك أن تهتم بحلمك الخاص، ولا تضل طريقك وسط من يزدرون الدنيا أو يشكون فيها. ومهما يكن من أمر، فلتلتزم غرفتك، ولتعمل حتى يتفق الآخرون عما نعمل بحياتنا. يقولون إن مرضك وعاداتك التافهة تتطلب منك أن تعمل هذا أو تتجنب ذاك، ولكن اعلم أن حياتك حالة عابرة، أو هي قباء تقضي فيه الليل ، وعليك - مريضا أو معافى - أن تتخطى هذه الحدود. إنك مريض، ولكن حالتك لن تسوء، والدنيا التي تعزك سوف تتحسن.

صفحة غير معروفة