لو عرف أحدنا ماذا نحن صانعون، أو إلى أين نحن ذاهبون، إذن لأجدنا المعرفة حينما نفكر! إننا لا نعرف اليوم هل نحن مشغولون أو خاملون؛ ففي أوقات حسبنا أنفسنا فيها خاملين تبين لنا فيما بعد أننا قد أنجزنا الكثير، وأن نفوسنا قد بدأ فيها الكثير. كل أيامنا عديمة الجدوى وهي تمضي، حتى إننا لنعجب أنى ومتى ظفرنا بشيء مما نسميه الحكمة أو الشعر أو الفضيلة. إننا لم نظفر بها في يوم مؤرخ من أيام التقويم. ولا بد وأن تكون بعض الأيام السماوية قد انضمت إلى التقويم العادي في وقت ما، كتلك الأيام التي ظفر بها هرمز من القمر بالنرد كي يولد أوزيريس. يقال إن كل استشهاد يبدو تافها عند تجربته. كل سفينة شيء خيالي، إلا حينما نقلع فيها. فإذا نحن أبحرنا، تخلى الخيال عن سفينتنا، وعلق بكل سفينة أخرى تبدو في الأفق. إن حياتنا تبدو تافهة فنتفادى تسجيلها. وكأن الناس تعلموا من الأفق فن التقهقر الدائم والتأجيل. يقول الفلاح المتذمر: «تلك الأراضي المرتفعة مرعى خصيب، ويملك جاري أرضا غنية، أما حقلي فيكاد لا يدر إلا ما يقيم أود العيش.»
إنني أروي قول غيري. ولسوء الحظ هذا الآخر يقوم بنفس التصرف ويروي عني. إنها حيلة الطبيعة أن تحط من شأن الحاضر هكذا. طنين شديد، ونتيجة تتم بطريقة سحرية في مكان ما. كل سقف محبب إلى العين، حتى يرتفع. حينئذ نجد المأساة والنساء اللائي يولولن، والأزواج ذوي العيون الجامدة، وطوفان النسيان، فيتساءل الناس: «أي شيء هناك جديد؟» كأن كل قديم خبيث. كم فرد نستطيع أن نعد في المجتمع؟ وكم عمل؟ وكم رأي؟ إن جزءا كبيرا من وقتنا تحضير، وجزء آخر كبير ينفق في العمل المألوف، وآخر في تدبر الماضي، حتى إن خلاصة عبقرية كل امرئ تتقلص إلى ساعات قلائل. إن تاريخ الأدب - إذا أخذنا النتيجة الصافية لترابوشي وورتن أو شلجل - مجموع أفكار قليلة جدا، وقصص مبتكرة قليلة كذلك، وكل ما عدا هذا تحوير في هذه الأفكار وتلك القصص. وكذلك في هذا المجتمع العظيم الذي ينبسط حولنا ، نجد بالتحليل الدقيق أن الأعمال التلقائية قليلة محدودة. وتكاد كل الأعمال أن تكون عادات وإحساسا مألوفا. بل إن الآراء ذاتها قليلة كذلك، وهذه الآراء تبدو من طبيعة المتكلمين، وكأنها لا تؤثر في الحياة العامة.
أي مخدر ينصب في كل كارثة! إنها تبدو مريعة حينما نقترب منها، غير أنه ليس هناك في آخر الأمر احتكاك مؤذ خشن، ولكنها سطوح زلقة منحدرة: إننا نعثر في يسر شديد على فكرة من الفكر، فيهون المصاب:
ويسير فوق رءوس الناس محلقا
بأقدام رقيقة خفيفة الوطء.
وإن الناس ليحزنون ويندبون على أنفسهم، ولكن الأمر لا يبلغ معهم كل هذا المبلغ من السوء كما يقولون. هناك من الحالات العقلية ما يجعلنا نرحب بالآلام أملا في أن نجد فيها الواقع على الأقل، وأطراف الحقيقة وقممها البارزة. ولكن الأمر ينتهي على أنه زور وتقليد لا أصالة فيه. إن الشيء الوحيد الذي علمنيه الأسى هو أن أعرف مقدار ضحولته. فإنه - كغيره من الأمور - يطفو على السطح، ولا يقدمني أبدا إلى الحقيقة، التي نود من أجل الاتصال بها لو دفعنا ثمنا غاليا، يكلفنا أبناءنا ومن نحب. هل هو بوسكوفتش الذي اكتشف أن الأجسام لا تتصل قط؟ إن الأرواح كذلك لا تبلغ أهدافها. إن بحرا لا يصلح للملاحة تتلاطم أمواجه الصامتة بيننا وبين الأشياء التي نهدف إليها ونتحدث إليها. والحزن كذلك يجعلنا مثاليين. عندما فقدت ولدي منذ أكثر من عامين، بدا لي كأني فقدت ضيعة جميلة، وليس أكثر من ذلك. لا أستطيع أن أقربها مني. ولو أخبرت في غدي عن إفلاس المدينين لي، فإن فقدان ملكي يسبب لي ضعفا شديدا، ربما لعدة سنوات. ولكنه يتركني كما وجدني، لا أحسن ولا أسوأ. وكذلك الحال في هذه المصيبة. إنها لا تمسني. إن شيئا تصورته جزءا مني، ولا يمكن أن ينتزع مني دون أن يمزقني، ولا يمكن أن يكبر دون أن يغنيني ، يسقط مني، ولا يترك أثرا. ولقد سقط قبل الأوان. إنما أحزن لأن الحزن لا يستطيع أن يعلمني شيئا، ولا يحملني خطوة واحدة نحو الطبيعة الحقة. إن الرجل الهندي الذي دعي إليه بألا تهب عليه ريح، وألا يتدفق إليه ماء، أو تحرقه نار، مثال منا جميعا. إن أعز الأحداث هي أمطار الصيف، ونحن معاطف البارا التي تنبذ كل قطرة. ولم يبق لنا الآن إلا الموت. ونحن نتوقعه مستسلمين متجهمين، ونقول: هنا على الأقل تكون الحقيقة التي لا تتحاشانا.
وصفة الانزلاق والزوال هذه التي تتصف بها جميع الأشياء، والتي تجعلها تفر من أيدينا كلما شددنا عليها القبض، هذه الصفة أسوأ جانب في ظروفنا. إن الطبيعة لا تحب أن تراقب، وتحب أن نكون سخريتها وألعوبة في يدها. وقد نتخذ الكرة الأرضية كرة للعب، ولكنا لا نستطيع أن نتخذ ثمرة من ثمار التوت لفلسفتنا. إنها لم تمدنا بالقوة التي نضرب بها الضربات المباشرة. كل ضرباتنا خاطفة، وكل خبطاتنا عارضة. وعلاقة أحدنا بالآخر عارضة لا تستقيم.
ويسلمنا حلم إلى حلم، وليس للوهم آخر. والحياة سلسلة من الحالات العقلية تشبه صفا من الخرز، عندما نمر بها يتبين لنا أنها عدسات متنوعة الألوان تلون العالم بلونها. وتبين كل منها ما يقع في بؤرتها فقط. من الجبل نشهد الجبل. ونبعث الحياة فيما نستطيع، ولا نرى إلا ما نبعث فيه الحياة. والطبيعة والكتب تتعلق بالأعين التي تراها. وعلى الحالة العقلية للمرء يتوقف إن كان يرى غروب الشمس أو القصيدة الرائعة. وهناك دائما غروب للشمس، وهناك دائما عبقريات. ولكن قل من الساعات الهادئة ما نستسيغ فيها الطبيعة أو النقد. إن ذلك يتوقف إلى حد كبير على التكوين أو المزاج. والمزاج هو السلك الحديدي الذي ينخرط فيه الخرز. وما فائدة الحظ أو الموهبة لطبيعة باردة معيبة؟ ومن ذا الذي يأبه بما يبديه في وقت ما من إحساس أو تمييز، إذا أغرق في النوم فوق كرسيه؟ أو إن هو ضحك أو سخر؟ أو إن اعتذر؟ أو أصيب بالأنانية؟ أو فكر في ماله ؟ أو لم يكفه طعامه؟ أو ظل طفلا في صباه؟ وما فائدة العبقرية إن كان العضو شديد التقعر أو شديد الاحديداب، ولا يستطيع أن يجد مسافة بؤرية في حدود الأفق الحقيقي للحياة الإنسانية؟ ما الفائدة إذا كان الذهن شديد البرودة أو شديد الحرارة، وإذا لم يعبأ المرء كثيرا بالنتائج، فلا يحثه ذهنه على التجربة، ويدفعه إليها؟ أو إذا كان النسيج رقيقا جدا، شديد الحساسية للذة والألم، حتى إن الحياة لتركد من كثرة ما تستقبل دون أن تجد لها مخرجا كافيا؟ وما جدوى العهود الوثيقة بالاستقامة إذا كان الخارج على القانون فيما سبق هو عينه الذي يتعهد بها؟ أي سرور تبعثه فينا العاطفة الدينية، إذا كنا نلمس أن هذا السرور يتوقف في الخفاء على فصول العام، وعلى المزاج الخاص؟ عرفت طبيبا فطنا وجد عقيدته في القناة الصفراوية، ولم يفتأ يؤكد أنه إذا كانت بالكبد علة أصبح الرجل كلفنيا، وإن صح هذا العضو منه صار موحدا. من المؤلم جدا أن يدرك المرء - كارها - أن الإفراط الزائد أو البلاهة تحد مما تبشر به العبقرية. إننا نرى شبانا يدينون لنا بعالم جديد، ونأمل من ورائهم خيرا جزيلا عاجلا، ولكنهم لا يؤدون الدين قط. إنهم يموتون صغارا ويتفادون الحساب، وإن عاشوا ضلوا وسط الزحام.
وللمزاج كذلك أثره الشديد فيما لدينا من أوهام، وهو يحبسنا في سجن من الزجاج لا نراه. فحول كل شخص نلاقيه وهم نظري. ولكل فرد في الواقع مزاج خاص يظهر في شخصيته خاصة، لا يتخطى حدودها، بيد أننا ننظر إليه، فيبدو لنا حيا، ونتوهم أن لديه قوة دافعة، إنها تبدو في تلك الخطة قوة دافعة، ولكنها بعد عام، وبعد العمر، يظهر أنها نغمة مطردة معينة، لا بد أن تعزفها الأسطوانة التي تدور في صندوق الموسيقى. إن الناس يعارضون في الصباح الفكرة التي تقول بأن المزاج يسود كل شيء زمني أو مكاني أو ظرفي، ولا يتلاشى في نيران العقيدة الدينية، فإذا ما أقبل الليل آمنوا بها. وقد ينجح الإحساس الخلقي في إدخال شيء من التعديل، غير أن نسيج كل فرد يبقى على طبيعته، فإذا لم يستمل إليه الأحكام الخلقية، فإنه يحدد مدى النشاط والمتعة.
إنني بهذا أعبر عن القانون كما يسن فوق منصة الحياة العادية، ولكن لا ينبغي أن أتركه دون أن أشير إلى الاستثناء الأساسي؛ لأن المزاج قوة لا يستمع المرء راغبا إلى أحد يثني عليها سوى نفسه. إننا فوق منصة علم الطبيعة لا نستطيع أن نقاوم المؤثرات التي لا مفر منها لما نسميه العلم. والمزاج يهزم كل ما هو مقدس. وأنا أعرف الميل العقلي للأطباء، وأسمع ضحكات علماء فراسة الدماغ. وخطاف الرقيق وتجاره يحسبون كل امرئ فريسة للآخر، يقلبه بين أنامله؛ لأنه يعرف قانون بقائه، ويعرف كل شيء عن نصيبه من الدنيا وعن صفاته من دلائل بسيطة كلون لحيته، أو ميل قذاله. إن أشد جهالة لا تنفر كما تنفر هذه المعرفة السليطة. يقول الأطباء إنهم ليسوا ماديين، ولكنهم كذلك، فإن الروح مادة تحولت إلى رقة بالغة، يا لها من رقة! بيد أن تعريف «الروحاني» يجب أن يكون «ذلك الذي يدل على نفسه.» أي آراء ينسبونها للحب؟! وأي آراء ينسبونها للدين؟! إن المرء لا يحب طوعا أن ينطق بهذه الكلمات في أسماعهم، ويعطيهم الفرصة لتدنيسها. رأيت رجلا وقورا مهذبا يشكل حديثه على هيئة رأس الرجل الذي يوجه إليه الحديث! وكنت أتصور أن قيمة الحياة في إمكانياتها التي لا يسبر غورها، وفي كوني لا أعرف قط ما قد يقع لي حينما أوجه حديثي إلى فرد جديد. إني أحمل مفاتيح قلعتي في يدي، مستعدا لإلقائه عند قدمي سيدي كلما بدا لي وعلى أية صورة تنكر. وأنا أعلم أنه إلى جواري مختبئ بين المتشردين. فهل أقف في سبيل نفسي باتخاذي مقعدا مرتفعا، وتشكيل حديثي في رفق على صورة الرءوس؟ فإن فعلت ذلك اشتراني الأطباء ببضعة دريهمات. «ولكن التاريخ الطبي يا سيدي، والتقرير المقدم للمعهد، والحقائق الثابتة!» إنني لا أثق في الحقائق وما يترتب عليها. المزاج هو الفيتو أو قوة الكبح في تكوين الأشياء، يحسن استعماله إذا استخدم في كبح الإفراط في الناحية الأخرى من التكوين، ولكنه لا يجدي نفعا إذا حسبته قوة تكافئ الاعتدال الأصيل. إذا حضرت الفضيلة نامت كل القوى الثانوية. المزاج نهائي في مستواه أو بالنسبة إلى الطبيعة. ولست أرى - إن وقع الإنسان في هذه المصيدة التي يسمونها العلوم - أي مفر له من حلقات سلسلة الضرورة الطبيعية. إنك إن أعطيت مثل هذا الجنين، فإن مثل هذا التاريخ لا بد أن يتلو. فوق هذه المنصة يعيش المرء في دائرة حسية، وسرعان ما يبلغ الانتحار. ولكن يستحيل على القوة الخالقة أن تستبعد نفسها؛ ففي كل ذكاء منفذ لا ينسد ينفذ منه الخالق. إن العقل وهو الذي يبحث عن الحق المطلق، أو القلب وهو الذي يعشق الخير المطلق، يتدخل لإنقاذنا، وعندما تصغر إحدى هذه القوى العليا نستيقظ من نضال لا يجدي مع هذا الكابوس، فنقذف به في جحيمه الخاص ولا نستطيع أن نعيد أنفسنا مرة أخرى إلى مثل هذه الحالة الوضيعة.
صفحة غير معروفة