والقمح الذي تنثره يستحيل أرواحا.
كل مادة من المواد الكيمائية تكهرب ما فوقها سلبا، وما دونها إيجابا؛ فالماء يحلل الخشب والحديد والملح، والهواء يحلل الماء، والنار الكهربائية تحلل الهواء، ولكن العقل يحلل النار والجاذبية والقوانين والمنهج، وأدق علاقات الطبيعة التي لا اسم لها، وذلك بمادته المذيبة التي لا تقاوم. والعقل يكمن وراء النبوغ؛ لأن النبوغ هو الجانب المنشئ من العقل. العقل هو القوة البسيطة التي تسبق كل عمل أو إنشاء. وكم وددت لو استطعت أن أبسط التاريخ الطبيعي للعقل على مراحل واضحة، ولكن أين الإنسان الذي استطاع قبل الآن أن يحدد خطوات هذا الجوهر الشفاف وحدوده؟ إن الأسئلة الأولى تلقى دائما، وأحكم الأطباء تحيره أسئلة الطفل الكثيرة. كيف نستطيع أن نتحدث عن عمل العقل وأن نقسمه، كما نتحدث عن معارفه، وقواعده الخلقية، وإنتاجه، وما إلى ذلك، ما دام يحول الإرادة إلى إدراك حي، والمعرفة إلى عمل. فيصبح كل منهما الآخر. أما العقل فهو وحده كائن لا يتغير. وهو لا يبصر كما تبصر العين، ولكنه يتحد والأشياء المعروفة.
العقل والتعقل كلاهما يعني - للأذن العارية - تأمل الحق المطلق. إن اعتبارات الزمان والمكان، وأنت وأنا، والمنفعة والضرر، تسيطر على عقول أكثر الناس. ولكن العقل يفصل الحقيقة التي نتأملها عن «شخصك»، وعن كل إشارة إلى ما هو موضعي أو شخصي، وينعم فيها النظر كأنها وجدت لذاتها. كان هرقليطس ينظر إلى الأهواء كأنها غيوم كثيفة ملونة. وفي غيوم الأهواء، خيرها وشرها، يشق على المرء أن يتقدم في خط مستقيم. أما العقل فإنه خلو من الأهواء، ويرى الشيء كما يظهر في ضوء العلم، باردا، لا يرتبط بشيء . العقل يخرج عن الفرد، ويطفو على شخصية العقل نفسه، وينظر إليها كأنها حقيقة، وليس باعتبارها «أنا» أو «لي». ومن يكون مغمورا فيما يتعلق بالشخص أو المكان لا يمكنه أن يرى مشكلة الوجود. ولكن العقل يتدبر الوجود دائما. إن الطبيعة تظهر كل شيء مصورا ومحددا. أما العقل فيخترق الصورة، ويثب فوق الجدار الحاجز، ويكشف التشابه الذاتي بين الأشياء المتباعدة، ويرد الأشياء جميعا إلى عدد من المبادئ محدود.
إذا جعلت حقيقة من الحقائق موضوعا لتفكيرك رفعت من شأنها. وكل تلك الكتلة من المظاهر العقلية والخلقية التي لا نخضعها للتفكير المقصود، تقع في دائرة ما يمكن تغييره. إنها تكون ظروف الحياة اليومية، وتتعرض للتغير وللمخاوف والآمال. إن كل فرد ينظر إلى بشريته بشيء من الحزن. وكما أن السفينة تحطمها الأمواج إذا التصقت بالأرض فكذلك الإنسان - الذي يحتبس في الحياة الفانية - يتعرض لرحمة الحوادث المقبلة. ولكن الحقيقة الواحدة، التي يعزلها العقل وحدها، لا تخضع لتبديل أو تغيير. إننا ننظر إليها كأنها إله يترفع عن الهم والخوف؛ ولذا فإن أية حقيقة في حياتنا، أو أية صورة من صور خيالنا وتأملنا، متحللة من نسيج عقلنا الباطن، تصبح موضوعا خالدا غير شخصي. إنها الماضي عائدا إلينا في صورة محنطة. وقد خلصتها من المخاوف والفساد فنون تفوق فنون المصريين في التحنيط، كما نزعت منها الهموم، ووهبت للعلم. إن ما يوجه إلينا للتأمل لا يهددنا، ولكنه يجعلنا كائنات عاقلة.
العقل ينمو تلقائيا في كل اتجاه. والعقل الذي ينمو لا يستطيع أن يتنبأ بوقت هذه التلقائية أو وسيلتها أو طرائقها. إن الله يدخل من باب خاص إلى كل فرد. ويسبق تفكير العقل عهد التأمل بوقت طويل. لقد خرج من الظلام لا يحس به أحد إلى ضوء النهار الذي يدعو إلى العجب. وفي زمن الطفولة تراه يتقبل بطريقته الخاصة جميع المؤثرات من الخلق الذي يحوطه ويتصرف فيها. إن كل ما يعمله العقل أو يتفوه به يخضع لقانون. وهذا القانون الطبيعي يبقى مسيطرا عليه بعد أن يصل إلى مرحلة التأمل أو التفكير الواعي. إن الرجل المتكلف المنهوك الذي ينطوي على نفسه ويعذبها، لا يمكنه أن يتوقع الجانب الأكبر من حياته؛ فهو مجهول، لا يمكن تصوره. ويجب أن يبقى كذلك، حتى يستطيع أن ينتشل نفسه من أذنيه. من أنا؟ ماذا صنعت إرادتي لتجعلني كما أنا؟ لا شيء. لقد طفوت فوق هذا الرأي، وفي هذه الساعة، وهذه الحوادث المتشابكة، بفعل تيارات خفية من القوة والعقل، ولم يعترض هذا الاتجاه أو يعززه - بدرجة محسوسة - ما عندي من عبقرية أو عناد.
إن ما نعمل تلقائيا هو دائما خير أعمالنا. إنك لا تستطيع، بكل ما لديك من قصد وحرص، أن تقترب من موضوع ما بقدر ما تقربك لمحة تلقائية، عندما تنهض من فراشك، أو تسير في الخارج صباحا بعد أن تتدبر الأمر قبل النوم في الليلة السابقة. التفكير كالوحي يهبط على الرجل التقي؛ ولذا فإن صدق الفكرة تفسده المبالغة في التوجيه العنيف الذي تقوم به الإرادة، كما تفسده زيادة الإهمال. إننا لا نحدد ما نفكر فيه. ولكننا نكتفي بأن نفتح حواسنا، وأن نزيل - ما استطعنا - كل ما يقف في سبيل الحقيقة، ونترك للعقل أن يرى. ما أقل سلطاننا على أفكارنا. إنما نحن سجناء الأفكار. إنها تقبض علينا لحظات في سمائها، وتشغلنا انشغالا كاملا بحيث لا نفكر في الغد، وإنما نحملق كالأطفال، دون أن نحاول أن نجعل هذه الأفكار ملكا لنا. وبعد وقت ما نبتعد عن هذا الابتهاج، ونذكر أين كنا، وما شهدنا، ونستعيد ما رأينا استعادة صادقة بقدر ما نستطيع. وبمقدار ما نستطيع استعادة هذه الحالات النفسية البهيجة، نحمل النتائج في ذاكرة لا تمحى، ويؤيدنا جميع الناس وجميع العصور. وذلك هو ما نسميه «الحقيقة». وفي اللحظة التي نكف فيها عن الاسترجاع، ونحاول فيها التصحيح والتدبير، تتلاشى الحقيقة.
وإذا فكرنا في الأشخاص الذين حفزونا ونفعونا، أدركنا تفوق مبدأ التلقائية أو البداهة على مبدأ الحساب والمنطق. الأول يتضمن الثاني، ولكن في صورة جوهرية كامنة. إننا نتطلب من كل إنسان منطقا طويلا، ولا نتسامح في انعدامه، ولكن هذا المنطق ينبغي ألا ينطق به. المنطق هو سير البديهة أو تفتحها تفتحا متلائما، وفضله في كونه طريقة صامتة. وفي اللحظة التي يظهر فيها في صورة فروض، وتكون له قيمة منفصلة، يصبح عديم القيمة.
في عقل كل إنسان تبقى بعض الصور، والكلمات، والحقائق، دون أن يبذل المرء جهدا في انطباعها، وهي صور وكلمات وحقائق ينساها غيره، وتوضح له هذه الأشياء فيما بعد بعضا من القوانين الهامة. كلما تقدمنا تفتح كتفتح زهرة الخضر. لديك أولا الغريزة، ثم الفكرة، ثم المعرفة، كما للنبات الجذر، فالبرعم، فالثمرة. ضع ثقتك في الغريزة حتى النهاية، حتى إن لم تستطع أن تقدم الأسباب. ومن العبث أن تتعجلها. وإن أنت وثقت فيها حتى النهاية نضجت وأثمرت الحقيقة، وعرفت لماذا آمنت بعقيدة ما.
ولكل عقل طريقته. والرجل الحق لا يجعل معارفه قط طبقا لقواعد الكليات الجامعة. إن ما تجمعه بطريقة طبيعية يذهل الرائي ويسره عندما تخرجه؛ لأننا لا نستطيع أن نكشف عن أسرار غيرنا. ومن ثم فإن الفروق بين الناس في المواهب الطبيعية تافهة إذا قيست إلى ثروتهم المشتركة. وهل تحسب أن حارس الباب والطاهي ليست عندهم لك قصص أو تجارب أو عجائب؟ كل فرد يعرف بقدر ما يعرف العالم. إن جدران العقول الساذجة مخططة كلها بالحقائق والأفكار. وسوف تحصل ذات يوم على مصباح وتقرأ المخطوط. وكل امرئ - بمقدار ما لديه من فطنة وثقافة - يشتعل حبا لمعرفة كل ما يتعلق بطرق العيش والتفكير عند غيره من الناس، وبخاصة عند تلك الطبقات التي لم تخضع عقولها لتدريب التعليم المدرسي.
وهذه الحركة الغريزية التي لا تتوقف البتة في العقل الصحيح، ولكنها تصبح أقوى وأكثر حصولا على المعرفة خلال جميع درجات الثقافة. وأخيرا يأتي عهد التأمل، حينما لا نكتفي بالملاحظة، ولكننا نبذل الجهد الشاق لكي نلاحظ، حينما نجلس عامدين لكي نفكر في حقيقة مطلقة، وحينما نفتح عين العقل أثناء الحديث والمطالعة والعمل ، ونقصد إلى معرفة القانون الذي يستتر خلف مجموعة من الحقائق.
صفحة غير معروفة