التجاذب، أو الفعل ورد الفعل، شيء تقابله في كل جزء من أجزاء الطبيعة، في الظلام والنور، في الحرارة والبرودة، في جزر المياه ومدها، في الذكر والأنثى، في شهيق النباتات والحيوانات وزفيرها، في تعادل الكم والنوع في سوائل الجسم الحيواني، في انقباض القلب وانبساطه، في تموجات السوائل والأصوات، في القوة الطاردة والقوة الجاذبة، في الكهرباء والكهربية السائلة، وفي الصلات الكيمائية. إذا أنت أحدثت مغناطيسية في أحد طرفي إبرة، حدثت المغناطيسية المضادة في الطرف الآخر. وإذا كان الجنوب يجذب فإن الشمال يطرد. وإذا أنت أفرغت هنا ملأت هناك. إن الطبيعة تخترقها ثنائية لا مفر منها؛ فكل شيء نصف يشير إلى شيء آخر يكمله، كالمادة والروح، والرجل والمرأة، والمفرد والمزدوج، والذاتي والموضوعي، والداخل والخارج، والعالي والسافل، والحركة والسكون، والإيجاب والنفي.
وكما أن العالم ثنائي هكذا، فكذلك كل جزء من أجزائه؛ فإن النظام الشامل للأشياء يتمثل في كل جزء؛ فهناك ما يشبه مد البحر وجزره، والليل والنهار، والرجل والمرأة، في كل إبرة من إبر الصنوبر، وكل حبة من حبات القمح، وكل فرد من أفراد أية قبيلة حيوانية. إن رد الفعل، الذي تراه عظيما في العناصر، يتكرر داخل هذه الحدود الضيقة؛ ففي المملكة الحيوانية مثلا يلاحظ الفسيولوجي أنه ليس هناك مخلوقات مفضلة، ولكن هناك تعويضا خاصا يوازن كل ميزة وكل عيب؛ فالزيادة التي تعطى لجزء ما تكون على حساب نقص في جزء آخر من نفس المخلوق. فإذا كان الرأس والرقبة على ضخامة، فالجذع والأطراف على ضآلة.
ونظرية القوى الآلية مثال آخر؛ فما نكتسبه في القوة نفقده في الوقت، وعكس ذلك صحيح. والعيوب المعوضة أو الفترية في الكواكب مثال آخر. وأثر المناخ والتربة في التاريخ السياسي مثال رابع. الجو البارد يبعث النشاط، والتربة القاحلة لا تولد الحميات أو التماسيح والنمور والعقارب.
والثنائية عينها تكمن وراء طبيعة الإنسان وحالته. كل زيادة ينجم عنها نقصان، وكل نقصان تترتب عليه زيادة. لكل حلو مرارته، وفي كل شر خير. وكل قدرة على قبول المتعة لها ما يوازيها من عقوبة إذا أسيء استخدامها. وعليها أن تضحي بحياتها في سبيل الاعتدال. كل ذرة من الذكاء تقابلها ذرة من الحماقة. ولقاء كل شيء يفوتك تكتسب شيئا آخر، ونظير كل شيء تكسبه شيء تخسره. إذا زادت الثروة زاد من يستخدمها. وإذا بالغ الجامع في الجمع، استلبت الطبيعة من الرجل بمقدار ما أودعت صندوقه. إنها تضخم ضيعته ولكنها تقتل صاحب الضيعة. الطبيعة تكره الاحتكار والاستثناء. وأمواج البحر تسارع إلى الهبوط من أعلى قممها كما تسارع تقلبات الأحوال إلى تسوية نفسها. هناك دائما ظرف من الظروف يميل إلى التسوية ويحط ماديا من المتعالي والقوي والغني والسعيد، حتى يجعله في مستوى واحد مع الآخرين. فإذا كان الرجل قويا على المجتمع متوحشا، مواطنا سيئا بمزاجه ومركزه، خبيثا حاد الطباع، فيه دفعة القرصان، فإن الطبيعة ترسل إليه جماعة طيبة من البنين والبنات، ناجحة في الفصول الأولية التي تديرها السيدات بمدرسة القرية، وحب الرجل وخوفه عليهم يخفف من تنكره للأخلاق الكريمة. وهكذا فإن الطبيعة تحاول أن تلين الجرانيت والفلسبار، وأن تنتزع الخنزير وتودع مكانه الحمل، وتحتفظ باتزانها دائما.
يتخيل المزارع أن القوة والمكانة من الأشياء الحسنة، ولكن رئيس الجمهورية قد دفع ثمنا غاليا للبيت الأبيض. إنه عادة يكلفه طمأنينته وخير صفات الرجولة لديه. ولكي يحتفظ لفترة قصيرة من الزمن بمظهر بارز كهذا أمام العالم تراه يقنع بأن يأكل التراب أمام السادة الحقيقيين الذين يقفون منتصبين خلف العرش. أم هل يرغب الناس في عظمة النبوغ لأنها أثقل وزنا وأشد ثباتا؟ إن هذه كذلك ليست لها حصانة. من يكون عظيما بقوة الإرادة أو قوة الفكر ويعلو على الألوف يتحمل تكاليف العظمة. كل فيض من النور يصحبه خطر جديد. هل لديه ضياء؟ لا بد له من صيانته، ولا بد له دائما من عدم الاكتفاء بشعور القناعة والرضى، وذلك لإخلاصه لكل وحي جديد تلهمه به روحه التي لا تفتر. لا بد له من أن يكره أمه وأباه، والزوج والولد. أم هل لديه كل ما تحب الدنيا وتعجب به وتشتهيه؟ لا بد له من أن ينبذ وراءه إعجاب الناس به، وأن يفجعهم بإخلاصه لحقيقته، فيصبح لهم كلمة عابرة، أو همسا خافتا.
هذا القانون يدون قوانين المدائن والأمم. ومن العبث أن نقيم ما يفنده أو نتآمر عليه أو نتحد ضده. «إن الأشياء ترفض أن تساء إدارتها طويلا.» إن الشر المستحدث قد لا تظهر فيه العقبات، ولكن العقبات قائمة وسوف تظهر. إذا كانت الحكومات قاسية، فإن حياة الحاكم لا تكون آمنة. وإذا فرضت ضريبة عالية فإن الدخل لا يأتيك بشيء. وإذا جعلنا قانون الجنايات دمويا، فإن المحكمين لن يدينوا أحدا. وإذا كان القانون لينا تدخل الانتقام الشخصي. وإن كانت الحكومة ديمقراطية مزعجة فإن فيض النشاط عند المواطن يقاوم ضغطها، فتتوهج الحياة بشعلة أقوى وميضا. يظهر أن حياة الإنسان الحقة وما يرضيه فعلا لا يخضع لأشد الظروف قسوة أو مواتاة، بل تثبت دون مبالاة بتقلبات الظروف جميعا. إن تأثير الشخصية يبقى كما هو تحت كل حكومة، يكاد يتشابه في تركيا ونيو إنجلند. وفي ظل الحكام المستبدين الأوائل في مصر يعترف التاريخ صراحة أن الإنسان كان يستمتع بالحرية بمقدار ما كانت تمكنه ثقافته.
هذه المظاهر تشير إلى أن الكون ممثل في كل جزء من أجزائه. كل شيء في الطبيعة يحتوي على قوى الطبيعة جميعا. وكل شيء مصنوع من مادة خفية واحدة، كما يرى عالم الطبيعة نوعا واحدا في التطورات المختلفة للشيء الواحد، ويرى الحصان كالرجل العداء، والسمكة كالرجل السابح، والعصفور كالرجل الطائر، والشجرة كالرجل ثابت الجذور. كل شكل جديد لا يكرر الصفة الأساسية للنوع فحسب، وإنما يكرر جزءا جزءا كل التفصيلات، وكل الأغراض، وأسباب التقدم، وأسباب التأخر، والقوى، والنظام بأسره، الذي يتميز به كل جزء آخر، وكل عمل وكل مهنة وفن وتعامل خلاصة للدنيا ويتمم كل واحد منها الآخر. كل فرد رمز كامل للحياة الإنسانية، رمز لخيرها وشرها، ومحاولاتها، وخصومها ومسيرها وغايتها. وكل فرد ينبغي له أن يستوعب الإنسانية كلها بصورة ما، وأن يكرر مصيرها كله.
إن الدنيا تكون نفسها في قطرة الندى. ولا يستطيع المنظار المكبر أن يجد الحيوان المتناهي في الصغر الذي يقل كمالا لأنه يقل حجما. إن العيون، والآذان، والذوق، والشم، والحركة، والمقاومة، والشهوة، وأعضاء التناسل التي تسيطر على الخلود، كل ذلك يجد مجالا يحتويه في المخلوق الصغير. وهكذا نضع حياتنا في كل عمل. والعقيدة الحقيقية في وجود الله في كل مكان معناها أن الله يعيد ظهوره بكل أجزائه في كل ذرة من طحلب أو خيط من نسيج العنكبوت. وقيمة الكون تجاهد أن تلقي بنفسها في كل قطرة: إن وجد الخير وجد كذلك الشر، وإن وجد التقارب وجد التباعد، وإن وجدت القوة وجد العجز.
هكذا يحيا الكون. كل شيء خلاصة؛ فالروح - التي نحسها عاطفة في نفوسنا - هي قانون خارج أنفسنا، نشعر بوحيها، ونشهد في التاريخ قوتها القاضية «فهي في الدنيا، وبها وجدت الدنيا». والإنصاف لا يؤجل، والعدالة الكاملة تقيم ميزانها في جميع أجزاء الحياة، والله مستعد دائما بأحكامه. إن الدنيا تشبه جدول الضرب في الحساب، أو معادلة رياضية، إذا قلبتها كيفما شئت توازن نفسها. خذ أي رقم تشاء تجد أن قيمته المضبوطة هي بالنسبة إليك لا تزيد ولا تنقص. كل سر يفشو، وكل جريمة تجد جزاءها، وكل فضيلة تكافأ، وكل خطأ يجازى، في صمت وبالتأكيد. وما نسميه الجزاء هو الحقيقة العالمية التي تدل على أن الكل يبدو حيثما ظهر الجزء. فإن شهدت دخانا فلا بد أن تكون هناك نار. وإن رأيت يدا، أو طرفا، عرفت أن الجذع خلفهما.
كل عمل يكافئ نفسه، أو بعبارة أخرى يكمل نفسه، بطريقتين؛ أولا: في الشيء، أو في الطبيعة الواقعة، وثانيا: في الظروف أو في الطبيعة الظاهرة. ويسمي الناس الظروف الجزاء. والجزاء السببي في الشيء تراه الروح، والجزاء في الظروف يدركه العقل، ولا ينفصل عن الشيء، ولكنه غالبا ما ينتشر على فترة طويلة من الزمن، ولذا لا يتضح إلا بعد سنوات عدة، فإن آثارا معينة قد تتبع الإساءة في وقت متأخر، ولكنها تتبعها لأنها ترافقها؛ فالجريمة والعقاب يصدران عن أصل واحد. العقوبة ثمرة تنضج في الخفاء داخل زهرة المتعة التي تخفيها الجريمة، ولا يمكن أن نفصل السبب عن النتيجة، أو الوسيلة عن الغاية، أو البذرة عن الثمرة؛ لأن النتيجة تتفتح فعلا في السبب، والغاية يسبق وجودها في الوسيلة، والثمار في البذور.
صفحة غير معروفة