أنا مالك الكرة الأرضية،
ومالك النجوم السبعة والسنة الشمسية،
ومالك يد قيصر، وذهن أفلاطون،
ومالك قلب السيد المسيح، ولحن شكسبير.
للناس جميعا عقل واحد مشترك. وكل فرد منفذ لهذا العقل، وله كله. ومن يعط القدرة على التفكير يصبح مالكا حرا لضيعة العقل كلها. فما فكر فيه أفلاطون يستطيع أن يفكر فيه، وما أحس به أي قديس يستطيع أن يحس به. وما حدث لأي إنسان في أي وقت يستطيع أن يدركه. من يصل إلى هذا العقل العالمي يكن شريكا في كل ما يعمل أو يمكن أن يعمل؛ لأن ذلك هو العامل الوحيد الذي يسود.
والتاريخ سجل لأعمال هذا العقل. ولا تظهر قيمته إلا من سلسلة الأيام كلها. ولا يمكن تفسير الإنسان بأقل من التاريخ بأسره. إن الروح الإنسان تسير قدما في غير عجلة وغير ركود من البداية لكي تضم إليها كل موهبة وكل فكرة وعاطفة تخصها، في حوادث ملائمة. غير أن الفكرة تسبق الواقع دائما، وكل وقائع التاريخ سبق وجودها في العقل على صورة قوانين. وكل قانون بدوره تجعله الظروف سائدا، وحدود الطبيعة لا تعطي القوة إلا لقانون واحد في الوقت الواحد. والإنسان هو موسوعة المعارف كلها. وإنك لواجد خلق ألف غابة في ثمرة واحدة من ثمار البلوط. وقد كانت مصر واليونان وروما وبلاد الغال وبريطانيا وأمريكا مطوية في الإنسان الأول.
هذا العقل البشري دون التاريخ، وهو الذي لا بد أن يقرأه، وعلى أبي الهول أن يحل لغز نفسه. وإذا كان التاريخ كله في إنسان واحد فإن التجربة الفردية تفسره كله. وهناك علاقة بين ساعات حياتنا وقرون الزمان. وكما أن الهواء الذي أستنشقه ينسحب من مستودعات الطبيعة العظمى، وكما أن الضوء الذي يسطع فوق كتابي يصدر عن نجم يبعد ألف مليون من الأميال، وكما أن وضع جسمي يعتمد على اتزان القوى الطاردة والقوة الجاذبة، فكذلك الساعات ينبغي أن تتعلم من العصور، والعصور تفسرها الساعات. وكل فرد صورة مجسدة جديدة للعقل العالمي. تتركز فيه كل خواص هذا العقل. وكل حقيقة جديدة في خبرته الخاصة تلقي ضوءا على ما قامت به جماعات كبرى من الناس. وأزمات حياته تشير إلى الأزمات القومية. وقد كانت كل ثورة في مبدأ أمرها فكرة في عقل فرد واحد، فإذا ما طرأت الفكرة عينها لفرد آخر فهي مفتاح ذلك العصر. وكل إصلاح كان فيما سبق فكرة خاصة، فإذا ما أصبح فكرة خاصة مرة أخرى، فإنه يحل مشكلة العصر. والحقيقة التي تروى ينبغي أن تقابل في نفسي شيئا لكي يمكن تصديقها وفهمها. وينبغي لنا حين نقرأ أن نصبح من اليونان أو الرومان أو الأتراك، وأن نصبح من القسيسين والملوك، ومن الشهداء والقاتلين. ينبغي لنا أن نربط هذه الصور بحقيقة من الحقائق في خبرتنا الخفية، وإلا ما تعلمنا شيئا حق العلم. إن ما حل بأسدربال أو قيصر بورجيا، يفسر قوى العقل وفساده كما يفسرهما ما حل بنا. كل قانون جديد وكل حركة سياسية، لها لديك معنى. قف أمام كل لوحة من لوحاتها وقل: «تحت هذا القناع أخفت طبيعتي المتغيرة نفسها.» وفي ذلك علاج للنقص الذي نعانيه من اقترابنا الشديد من أنفسنا، وهو يلقي بأعمالنا في حدود المنظور. وكما أن السرطان والحمل والعقارب والميزان ووعاء الماء تفقد وضاعتها عندما تعلق بدائرة البروج، فإني كذلك أستطيع أن أرى آثامي بغير حرارة في أشخاص سليمان والسبيادس وكاتلاين الأقدمين.
هي الطبيعة المطلقة التي تكسب الأفراد والأشياء قيمتها. والحياة الإنسانية التي تحتوي على ذلك لغز ولا يمكن اقتحامها، ونحن نحيطها بالعقوبات والقوانين. ومن ذلك تستمد جميع القوانين السبب في وجودها، وكلها تعبر بدرجات مختلفة من الوضوح عن سلطانها على هذه الأرواح العليا التي لا تحد. والملكية كذلك تستولي على الروح، وتشمل حقائق روحية عظمى، ونحن بالغريزة في مبدأ الأمر نتمسك بها بحد السيف والقانون وباتحادات واسعة معقدة. والإحساس الغامض بهذه الحقيقة هو ضياء يومنا كله، وأقصى أمانينا. هو ذريعتنا للتربية والعدالة والإحسان، وأساس الصداقة والمحبة، والبطولة والعظمة التي تتعلق بالأعمال التي تتصل بالاعتماد على النفس. ومما يستلفت النظر أننا - رغم إرادتنا - نطالع دائما باعتبارنا كائنات عليا؛ فالتاريخ العالمي، والشعراء، وكتاب القصص الخيالية، في أفخم صورة لهم - في الكهنوت وفي قصور الملوك، وفي انتصار الإرادة أو العبقرية - لا تعدم منا آذانا مصغية في أي مكان، ولا تجعلنا في أي مكان نحس أننا دخلاء، وإن ذلك من شأن رجال أحسن منا، بل إنه لمن الحق أننا نحس بأقصى الطمأنينة إزاء أعظم ما أبدعت قرائحهم. كل ما يقوله شكسبير عن ملك من الملوك يحس مدى صدقه على نفسه ذلك الصبي المغمور الذي يقرأ في إحدى الزوايا. وإننا لنعطف على لحظات التاريخ الكبرى، والكشوف العظمى، وكل مقاومة عنيفة، والخصائص الكبرى للرجال؛ لأنه - في هذه الحالة أو تلك - قد نفذ قانون، أو جرى البحث في محيط، أو وجدت أرض، أو ضربت من أجلنا ضربة، كما لو كنا نحن أنفسنا - أو شجعنا على ذلك - في هذا الموقف.
وإنا لنهتم هذا الاهتمام عينه بالأحوال والأشخاص. نكرم الغني؛ لأنه يملك في ظاهره الحرية والنفوذ والجلال التي نشعر بملاءمتها للإنسان وملاءمتها لنا أيضا. ولذا فإن كل ما يضفيه رواقي أو كاتب مقال شرقي أو حديث على «الرجل الحكيم» إنما يصف لكل قارئ آراءه الخاصة، ويصف له نفسه التي يمكن تحقيقها ولكنه لم يحققها بعد. والأدب كله إنما يكتب شخصية الرجل الحكيم. وليست الكتب والآثار والصور والأحاديث سوى رسوم يجد فيها القارئ الملامح التي تكون نفسه. الصامت والمفصح يثني عليه ويناديه، وحيثما انتقل تنبهه الإشارات الشخصية. ولذا فإن الطموح الصادق ليس بحاجة إلى التماس الإشارات الشخصية التي تتضمن التمجيد في الحديث؛ فهو يستمع إلى الثناء المستطاب على تلك الشخصية التي يبحث عنها - لا على نفسه - في كل كلمة تقال بشأن الشخصية، بل أكثر من ذلك في كل حقيقة وكل ظرف، في النهر الجاري وفي حفيف نبات القمح. من الطبيعة الصامتة، ومن الجبال ومن أنوار السموات يشاهد الثناء، ويقدم الولاء، ويفيض الحب.
هذه الإشارات، التي كأنها تساقطت من النوم ومن الليل، دعنا نستخدمها في وضح النهار. ينبغي للطالب أن يقرأ التاريخ قراءة إيجابية لا سلبية، وينبغي له أن يقدر حياته متنا، والكتب شرحا. فتجد آلهة التاريخ نفسها مرغمة على النطق بالكلام المقدس، وهي لا تفعل ذلك البتة لأولئك الذين لا يقدرون أنفسهم. ولست آمل أن يقرأ التاريخ قراءة صحيحة رجل يحسب أن ما فعله في عصر بعيد رجال رن صيتهم في الآفاق له معنى أعمق مما يفعل هو اليوم.
صفحة غير معروفة