إن يسوع المسيح ينتمي إلى الجنس الصادق من الأنبياء، ولقد رأى بعين مفتوحة لغز الروح، وجذبه انسجامها الشديد وفتنة جمالها، فعاش فيها، وكان وجوده هناك. وهو وحده في التاريخ كله الذي قدر عظمة الإنسان. رجل واحد كان مخلصا لما في نفسك وما في نفسي. رأى أن الله يجسد نفسه في الإنسان، ويتقدم دائما من جديد لكي يستولى على دنياه . وفي عيد الذكر لهذه العاطفة السامية يقول: «أنا مقدس، والله يعمل من خلالي، ويتكلم من خلالي. إن أردت أن ترى الله فانظر إلي، أو انظر إلى نفسك إذا كنت كذلك تفكر كما أفكر أنا الآن.» ولكن أي تحريف عانى مبدؤه وعانت ذكراه في عصره، وفي العصر الذي تلاه، والعصور المتعاقبة! ليس هناك مبدأ من مبادئ «العقل» يمكن أن يعلم عن طريق «الفهم». إنما أصغى فهم الإنسان إلى هذه النغمة العالية من بين شفتي الشاعر، وقال في العصر التالي: «هذا هو الله (يهوه) نزل من السماء، وسأقتلك إن قلت إنه كان إنسانا.» واحتلت تعابير لغته وضروب فصاحته مكانة صدقه، ولم تبن الكنائس على مبادئه، وإنما بنيت على استعارته ومجازه، وصارت المسيحية أسطورة، كما صارت من قبل التعاليم الشعرية اليونانية والمصرية. تحدث عن المعجزات لأنه أحس بأن حياة الإنسان معجزة، وكل ما يعمل الإنسان معجزة، وعرف أن هذه المعجزة اليومية تشرق كلما ارتفعت الشخصية. غير أن كلمة المعجزة كما تنطق بها الكنائس المسيحية تعطي معنى زائفا. إنها كالحيوان الخرافي، ولا تتفق والطبيعة التي تتمثل في البرسيم المزهر والمطر المتساقط.
وأحس بالاحترام لموسى والأنبياء، ولكنه لم يشعر بأن وحيهم الأول يصلح للبقاء للساعة الراهنة وللإنسان الحالي، أو يصلح أن يكون وحيا أبديا في القلب. ولم يعطف على هذه الفكرة. وهكذا كان المسيح إنسانا حقا. ولما رأى أن القانون الكامن في أنفسنا متسلط لم يرض له بالخضوع، وأعلن شجاعة، وبيده وقلبه وحياته أن هذا القانون هو الله. هذا هو المسيح، كما أظن، الروح الوحيدة في التاريخ التي قدرت قيمة الإنسان. (1)
من وجهة النظر هذه ندرك العيب الأول للمسيحية التاريخية. لقد وقعت المسيحية التاريخية في خطأ يفسد كل محاولة لنشر الدين. فإنها تبدو لنا - كما بدت عدة عصور - كأنها ليست مذهب الروح، وإنما مبالغة فيما هو شخصي وما هو إيجابي، مبالغة في الطقوس. ولقد اهتمت - ولا تزال تهتم - في مبالغة شديدة بشخص المسيح، ولكن الروح لا تعرف الأشخاص، إنها تدعو كل فرد إلى أن يمتد حتى يبلغ دائرة الكون بأسرها، وهي لا تؤثر شيئا سوى المحبة التلقائية. بيد أن هذه المسيحية التي تشبه الملكية الشرقية، التي قامت على التراخي والخوف، قد جعلت صديق الإنسان رجلا مؤذيا له. والطريقة التي يحاط بها اسمه بعبارات كانت فيما مضى نفحات من الإعجاب والمحبة، ولكنها تحجرت الآن في ألقاب رسمية، هذه الطريقة تقتل كل عطف كريم أو محبة. وكل من يستمع إلي يحس أن اللغة التي يوصف بها المسيح في أوروبا وأمريكا ليست من أساليب الصداقة والحماسة لقلب طيب نبيل، ولكنها لغة خاصة رسمية، تصور نصف إله، كما كان الشرقيون أو الإغريق يصفون أوزيرس أو أبولو. لو قبلتم التعاليم التي فرضت عليكم فيما مضى بطريقة السؤال والجواب فأوذيتم بها لوجدتم أن الأمانة نفسها وإنكار الذات إنما كانتا من الخطايا الكبرى إذا لم تتصفا باسم المسيحية. وإن المرء لخير له أن يكون «وثنيا يرضع لبان مذهب بال» من أن يخدع في حقه الإنساني، فيأتي إلى الطبيعة ويجد أن الأسماء والأماكن، والبلدان والمهن - ليست وحدها - بل كذلك الفضيلة والحق، قد حبست واحتكرت. بل إنك لن تكون رجلا. لن تملك الأرض، لن تجرؤ على العيش في سبيل القانون الأبدي الذي يحل بك، ويصحب الجمال الأبدي الذي تعكسه لك الأرض والسماء في كل صورة جذابة. وإنما ينبغي لك أن تخضع طبيعتك لطبيعة المسيح. ينبغي لك أن تقبل تفسيرنا وترى صورته كما ترسمها العامة.
إن خير الأمور ما يسلمني إلى نفسي. وإن المذهب الرواقي العظيم: «أطع نفسك» ليثير في نفسي السمو والرفعة. ما يظهر الله في نفسي يعززني، وما يظهر الله خارج نفسي يجعلني زائدة جلدية أو غدة دهنية، فلا تبقى علة ضرورية لوجودي. وإنما تزحف علي ظلال النسيان قبل الأوان، فأموت إلى الأبد.
المنشدون المقدسون أصدقاء فضيلتي، وعقلي، وقواي. إنهم ينبهونني إلى أن الأشعة التي تومض في عقلي ليست لي، إنما هي لله، وإلى أنهم كانوا يملكون مثل هذه الأشعة، ولم يعصوا رؤى السماء، ولذا فإني أحبهم. عنهم يصدر الإيعاز النبيل، الذي يدعوني إلى مقاومة الشر، وإلى أن أخضع الدنيا، وإلى أن أكون. وعلى هذه الصورة وحدها يخدمنا المسيح بأفكاره المقدسة. أما أن يهدف إلى أن يهدي الإنسان بالمعجزة، فذلك تدنيس للروح. الهداية الصادقة، والمسيح الصادق، إنما يتم اليوم - كما كان يتم دائما - بتقبل العواطف الجميلة. وحقا إن روحا عظيما غنيا كروحه إذا هبط بين قوم سذج كان له الرجحان، فيشمل العالم، كما فعل روحه. هؤلاء السذج يبدو لهم أن الدنيا وجدت له، ولم يشربوا روحه فيروا أنهم لا يكبرون أبدا إلا إذا ثابوا إلى أنفسهم، أو إلى الله في أنفسهم. وإنها لمنفعة يسيرة أن تعطيني شيئا، ومنفعة كبرى أن تمكنني من أداء شيء بنفسي. ولسوف يأتي الوقت الذي يرى فيه الناس جميعا أن هبة الله للروح ليست في القداسة التي تزدهر وتتسلط وتستبعد كل شيء سواها، وإنما هي في الخير العذب الطبيعي، خير كالذي عندك والذي عندي. هي الهبة التي تدعو خيرك وخيري إلى أن يوجد وأن ينمو.
وإن العسف الذي تنطوي عليه نغمة الوعظ العامة لا يسيء إلى يسوع أقل مما يسيء إلى الأرواح التي يدنسها. إن الوعاظ لا يدركون أنهم لا يجعلون بشرى المسيح سارة، وإنهم ينزعون عنه شارات الجمال وصفات السماء. إنني عندما أشاهد رجلا جليلا مثل أبامينونداس أو واشنطن، وعندما أرى بين معاصري خطيبا صادقا أو قاضيا عادلا، أو صديقا حميما، وعندما أهتز لما في القصيدة الشعرية من موسيقى وخيال، حينئذ أرى جمالا يشتهى. وإن موسيقى المنشدين العنيفة التي تغنت بالإله الحق في كل العصور لترن في أذني فيطمئن لها كياني البشري اطمئنانا أشمل من ذلك. وإذن فلا تحطوا من شأن حياة المسيح ومحاوراته فتخرجوها من دائرة هذا السحر، وذلك بعزلها وتخصيصها. دعوا هذه الحياة وهذه المحاورات تقع في نفوسنا كما هبطت، حية دافئة، جزءا من الحياة البشرية ومن منظر الطبيعة ومن اليوم السعيد. (2)
والعيب الثاني في الطريقة التقليدية المحدودة لاستخدام فكرة المسيح نتيجة للعيب الأول، وذلك هو أن القانون الخلقي، قانون القوانين الذي يدخل وحيه العظمة - بل الله نفسه - في الروح المتفتحة، ذلك القانون لا يكشف عنه باعتباره منبع التعاليم السائدة في المجتمع. فصار الناس يتحدثون عن الوحي كأنه قد أوحي به وانتهى من عهد قديم، كأن الله قد مات. وإن هذا الضعف في الإيمان ليخنق الواعظ نفسه، كما يصبح خير النظم صوتا مترددا غير فصيح.
ولا مراء في أن الاتجاه إلى جمال الروح يؤدي إلى الرغبة بل والحاجة إلى تلقين الآخرين المعرفة نفسها والمحبة ذاتها؛ فإن الفكرة إذا حرمت التعبير عنها تبقى عبثا على عاتق صاحبها. من ير فلا بد له دائما من القول، لا بد له من التحدث عن حلمه بطريقة ما، فينشره على صورة ما في جد وسرور، فهو يمثل معبود روحه مرة بقلم الرصاص على لوحة التصوير، وأخرى بالإزميل في الحجر أو في البروج وممرات الكنائس المصنوعة من الجرانيت، ومرة في الأناشيد ذات الموسيقى الناعسة، ولكن أحلامه أوضح ما تكون وأثبت ما تكون في الألفاظ.
والرجل الذي تستهويه هذه البراعة يصبح لهذه الأحلام قسيسا أو شاعرا، وكلتا الوظيفتين قد وجدتا منذ خلقت الدنيا. ولكن انظر إلى شرط الوظيفة أو حدها الروحي. إن الروح وحدها تستطيع أن تعلم، فلا يقدر على التعليم أي رجل دنس، أو أي إنسان مادي، أو كاذب، أو رقيق. وإنما الذي يعطي هو وحده الذي يملك، والذي يخلق هو الكائن، والرجل الذي تهبط عليه الروح، والذي تتحدث الروح بوساطته، هو وحده الذي يقدر على التعليم؛ فالشجاعة، والورع، والمحبة والحكمة، يمكنها أن تعلم. ويستطيع كل إنسان أن يفتح بابه لهذه الملائكة، ولسوف تأتيه بهبة الألسنة. أما الرجل الذي يهدف إلى الكلام كما تمكنه الكتب، وكما تقول مجامع العلماء، وكما ترشد الآراء الشائعة، وتهدي المصالح، ذلك الرجل إنما يهذي، وخير له أن يسكت.
ولهذه الوظيفة المقدسة تعتزمون أن تكرسوا أنفسكم، ووددت لو أحسستم بواجبكم كأنه نبض الرغبة والأمل. فإن وظيفتكم في مقدمة الوظائف في هذه الدنيا، وقد بلغت من الحق حدا لا يجعلها تحتمل نقصا من الزيف. ومن واجبي أن أقول لكم إن الحاجة إلى إلهام جديد لم تكن في أي وقت من الأوقات أشد مما هي الآن. ومن الآراء التي عبرت لكم الآن عنها تستنبطون عقيدتي المؤلمة - التي يشاركني ويعتقد فيها معي عدد عديد - في التدهور الشامل للإيمان في المجتمع الذي يكاد أن يبلغ الموت في هذه الأيام؛ فالروح لم تتعظ، والكنيسة كأنها تترنح وتئول إلى السقوط، وتكاد حياتها كلها أن تبيد. وفي هذه المناسبة، من الجرم أن يتلطف معكم متلطف - أمله ورسالته أن يعلمكم العقيدة المسيحية - فيخبركم أن هذه العقيدة قد بلغت.
صفحة غير معروفة