والسبب في دعوتنا إلى الثقة بالنفس أعمق من أن يسبر غوره، وأظلم من أن يستنير. وربما لا أستطيع أن أظفر بمشاعر المستمعين إلي عندما أصرح لهم بعقيدتي. ولكني قد أبنت لكم أساس آمالي، وذلك عندما نبهت إلى المذهب القائل بوحدة الإنسان. وإني أعتقد بأن الإنسان قد أسيء إليه، أو أنه قد أساء إلى نفسه، وكاد أن يفقد النور الذي يمكن أن يرده إلى ما تميز به . ولم يعد للناس وزن؛ فهم في التاريخ، وهم في عالم اليوم كالهوام أو بيض السمك، ويسمون «الجموع» أو «القطيع». وفي كل قرن، أو في كل ألف عام، يظهر رجل واحد أو رجلان، أعني واحدا أو اثنين، يقربان من الحالة الصحية التي ينبغي أن يكون عليها كل إنسان، وكل من عداه أو عداهما يرى في البطل أو في الشاعر وجوده الساذج البدائي في حالة النضوج. أجل، وإنه ليرضى أن يكون أقل من ذلك، لكي يتم لذلك البطل نموه. ويا له من دليل، ينم عن المجد ويدعو إلى الحسرة، ذلك الدليل الذي يقدمه - ليلبي حاجة نفسه - الرجل الفقير في القبيلة، أو العضو المعدم في الجماعة، حينما يبتهج للمجد يظفر به زعيمه. في ذلك يجد الفقير والوضيع شيئا من العوض لكفايتهما المعنوية الهائلة، عوضا عن هبوطهم إلى الحضيض في معترك السياسة والاجتماع. لقد رضوا لأنفسهم أن يزالوا كالذباب من طريق الرجل العظيم كي يمكنوا له من إقامة العدل لتلك الطبيعة المشتركة التي يتوق الناس جميعا إلى أن يروها معظمة ممجدة. إنهم يستدفئون بالحرارة المنبعثة من الرجل العظيم، ويشعرون بأن هذه الحرارة أو ذلك الضوء من إشعاع أنفسهم. إنهم ينبذون كرامة الإنسان من نفوسهم الذليلة ليضعوها على أكتاف البطل، وإنهم ليقضون نحبهم لكي يضيفوا قطرة من دماء ينبض بها ذلك القلب الكبير، وتجعل تلك الأعصاب الجبارة تقاتل وتنتصر. هذا الرجل العظيم يعيش لنا، ونعيش فيه.
والناس - كما هم - من الطبيعي جدا أن يطلبوا المال والنفوذ، وإنما يطلبون النفوذ لأنه بمثابة المال، أو غنيمة الوظيفة كما يقال. ولم لا؟ فهم يتطلعون إلى ذروة العلا، وهذا في أحلام يقظتهم ما يعتقدون أنه ذروة العلا. أيقظهم يتخلوا عن هذا الخير الزائف ويقفزوا إلى الحقيقة، ويتركوا الحلم للكتبة والمكاتب. ويمكن إشعال هذه الثورة بترويض فكرة الثقافة تدريجا. إن أهم ما يصبو إليه العالم لبلوغ المجد واتساع الأفق هو بناء الإنسان. وها هي ذي مواد البناء ملقاة على الأرض. إن الحياة الخاصة لرجل واحد سوف تكون مملكة أبهى سناء وأشد ذعرا للعدو، وأحلى وأجدى نفوذا للصديق، من أية مملكة في التاريخ؛ لأنك إن أنعمت النظر إلى الرجل ألفيته ينطوي على الطبائع الموزعة على الناس جميعا. وكل فيلسوف وكل شاعر وكل ممثل قد أدى لي نيابة عني ما أستطيع ذات يؤم أن أؤديه لنفسي. والكتب التي كنا فيما مضى نقومها كما نقوم إنسان العين قد استوعبناها تماما. ولا يختلف ذلك عن قولنا إننا قد التقينا في وجهة النظر التي طبعها العقل العالمي في عيني الكاتب. لقد كنا ذلك الرجل، ثم انصرفنا، إننا ننزح مستودعات الماء جميعا واحدا بعد الآخر، ولما كنا ننمو من كل هذا المدد، فإننا نشتهي طعاما أحسن وأوفر. إن الرجل الذي لا يطعمنا البتة لم يعش قط. والعقل الإنساني لا يمكن أن يدخر في شخص يضع سدا في أي جانب من جوانب هذه الإمبراطورية التي لا تحد. إنها نار واحدة مركزية، تشتعل مرة بين شفتي أتنا فتضيء رءوس صقلية، ومرة أخرى من حلق فيزوف فتبعث الضوء إلى بروج نابلس وكرومها. إنه ضوء واحد يشع من ألف نجم. إنها روح واحدة تبعث الحياة في جميع الناس.
ولكني ربما أكون قد أسهبت إلى حد الإملال في الحديث عن العالم كموضوع مجرد، ولا ينبغي لي أن أتلكأ أكثر من ذلك في ذكر ما أريد التنويه عنه من الإشارة القريبة إلى هذا العصر وهذا البلد.
إننا نحسب - من الناحية التاريخية - أن هناك فارقا في الآراء التي تسود في العصور المتعاقبة، وأن هناك من الحقائق ما يميز العقلية الكلاسيكية من العقلية الرومانتيكية، ومن عقلية العصر الحديث، عصر التفكير أو الفلسفة. وبعد الآراء التي قدمتها عن وحدة العقل أو مماثلته في جميع الأفراد، لن آبه كثيرا بهذه الفوارق، بل إني لأعتقد أن كل فرد يمر بالمراحل الثلاث؛ فالصبي يوناني، والشاب رومانتيكي، والراشد مفكر. ومع ذلك فإني لا أنكر أننا نستطيع أن نتتبع في جلاء تطورا في الفكرة الرئيسية.
إننا نندب عصرنا لأنه عصر «انطواء»، ولكن هل هذا شر؟ يبدو أننا ناقدون، تحيرنا أفكار الآخرين، ولا نستطيع أن نستمتع بشيء لأننا نتلهف على معرفة مصدر السرور. نحن مبطنون بالعيون، حتى إنا لنرى بأقدامنا، وعصرنا مصاب بما أصاب هاملت من شقاء.
مرضى بألوان من التفكير شاحبة.
وهل هذا شر؟ إن النظر هو آخر ما يتحسر عليه الإنسان، هل نرضى لأنفسنا العمى؟ هل نخشى أن نرى أبعد من الطبيعة ومن الله، ونشرب الحقيقة على جفاف؟ إنني لأنظر إلى سخط طبقة الأدباء على أنه إقرار منهم بأنهم لا يجدون أنفسهم في الحالة العقلية التي كان عليها آباؤهم، ويأسفون لأنهم لم يجربوا حالة المستقبل، كما يخشى الغلام الماء قبل أن يعلم أنه يستطيع السباحة. ولو أن هناك عصرا يود الإنسان أن يولد فيه فهو ألا يكون عصر «الثورة» حينما يقف القديم والجديد وجها لوجه، ويتعرضان للمقارنة، حينما يتأثر نشاط الناس جميعا بالخوف والأمل، حينما يستعاض عن أمجاد الماضي التاريخية بإمكانيات العصر الجديد الغنية. إن هذا الوقت، كغيره من الأوقات جميعا، وقت طيب جدا، لو عرفنا كيف نستغله.
إنني أقرأ بشيء من السرور عن علامات الأيام المقبلة التي تبشر بالخير، وهي تتلألأ خلال الشعر والفن، وخلال الفلسفة والعلم، وخلال الكنيسة والدولة.
وإحدى هذه العلامات هي أن الحركة عينها التي أدت إلى رفع مستوى ما كان يسمى بأحط الطبقات في الدولة، اتخذت في الأدب صورة واضحة جدا تشبهها رفقا ورأفة. فبدلا من السامي والجميل بحث الأدباء عن القريب والوضيع والمألوف، ونظموا فيه الشعر. وما كان يدوسه بالأقدام ويهمله أولئك الذين كانوا يعدون أنفسهم ويتزودون للرحلات البعيدة في الأقطار النائية، وجد فجأة أنه أغنى من كل بلد أجنبي؛ فموضوعات اليوم هي أدب الفقير، ومشاعر الطفل، وفلسفة الشارع، ومعنى الحياة المنزلية. وإنها لخطوة عظيمة. أليس من علامات القوة أن يدب النشاط في الأطراف، وأن تجري تيارات من الحياة الدافئة في الأيدي والأقدام؟ إنني لا أبحث عن العظيم والبعيد والخيالي، ولا أسأل عما يجري في إيطاليا أو بلاد العرب، أو على الفن الإغريقي أو أناشيد «بروفنسال»، وإنما أنا أحتضن الأمر العادي، وأكتشف الشيء المألوف والشيء الوضيع وأجلس عند قدميه. بصرني باليوم، أعطك العالم القديم وعالم المستقبل. ماذا عسانا حقا نحب أن نعرف له معنى؟ الطعام في الإناء، واللبن في الوعاء، والقصة المنظومة في الشارع، وأنباء الزورق، ولمحة العين، وهيئة الجسم ومشيته. أرني الأسباب البعيدة لهذه الأمور، وأرني الوجود السامي للأسباب الروحية العليا كامنة - كما تكمن دائما - في هذه الضواحي وهذه الأطراف من الطبيعة، ودعني أرى التوافه وهي تتطاول إلى الاستقطاب الذي يردها توا إلا القانون الأبدي، دعني أرى الحانوت، والمحراث، ودفتر الحسابات الذي يصدر عن نفس السبب الذي تنشأ عنه ذبذبة الضوء وغناء الشعراء. دعني أرى كل ذلك، ولن تكون الدنيا بعد ذلك خليطا مملا كالحجرة يتراكم فيها سقط المتاع، بل تكون على صورة ونظام. ليس هناك أمر تافه، أو لغز، وإنما هناك خطة واحدة توحد بين أعلى القمم وأسفل الأخاديد وتبعث فيها الحياة.
هذه الفكرة ألهمت عبقرية جولد سمث وبرنز وكوبر، وفي عصر أحدث، ألهمت جيته ووردزورث وكارليل. هؤلاء تابعوا هذه الفكرة على صور مختلفة وبدرجات متفاوتة من النجاح. وتتباين كتابتهم مع أسلوب بوب وجونسن وجبن الذي يبدو باردا متكلفا. أما كتابتهم ففيها دفء الدماء. وإن الإنسان ليدهشه أن يرى أن الأشياء القريبة ليست أقل جمالا وعجبا من الأشياء البعيدة. القريب يفسر البعيد. وليست القطرة إلا محيطا صغيرا، والإنسان متصل بالطبيعة كلها. وهذه الفكرة عن قيمة الشيء الشائع تنفع في كشف ما استتر. ولقد كان جيته في ذلك أحدث المحدثين، ومع ذلك فقد أطلعنا - كما لم يطلعنا أحد من قبل - على عبقرية القدماء.
صفحة غير معروفة