يرقد هنا أصغر الشهداء. كانت هناك دهشة كبرى من هجوم الكوارث والتعاسة الواقعية على الشاعر، وكأنهما منحة إلهية. لقد كان الفتى يؤمن بالتوافق القدري، التوافق القدري لسير حياة الشعراء. بالنسبة للفتى كان الإيمان بالتوافق القدري والإيمان بعبقريته نفس الشيء.
وكان ممتعا له أن يفكر في محتوى نعي طويل يكتبه لنفسه، أو في مجده بعد الموت، ولكن عندما يصل تفكير إلى جثته بعد الموت، تجعله تلك الأفكار في النهاية يمتعض قليلا. كان يحدث نفسه بقوة وحماس قائلا لها: «يجب علي أن أحيا كالألعاب النارية؛ أبذل كل جهدي في تلوين سماء الليل في لحظة، ثم أختفي في الحال.»
كان يفكر في أشياء متعددة، ولكنه لم يستطع تخيل طريقة للحياة غير ذلك. ولكن الفتى كان يكره الانتحار؛ لذا فالتوافق القدري سيسدي له معروفا ويقتله في الوقت المناسب بشكل ملائم.
لقد بدأ الشعر يجعل الفتى يميل تجاه الكسل النفسي. لو كان أكثر اجتهادا من الناحية النفسية، لربما كان قد فكر في الانتحار بقلب متحمس.
في طابور الصباح، دعاه مشرف الطلبة للقائه. قال له: «تعال إلى مكتب المشرف.» ومعنى دعوته إلى ذلك المكتب أنه سيلاقي تعنيفا ومساءلة أثقل من الدعوة إلى مكتب المدرسين. زملاؤه قاموا بإخافته قائلين: «أكيد أنت تعلم ماذا فعلت.» شحب وجه الفتى وارتعشت يداه بشدة.
كان مشرف الطلبة ينتظره وهو جالس ممسكا بملقاط الفحم الحديدي يكتب به حروفا ما على رماد المدفأة التي بلا نيران. وعندما دخل الفتى قال له المشرف بصوت حنون: «اجلس!» ولم يعنفه مطلقا. بل قال له إنه قرأ شعره الذي نشر في مجلة لجنة أصدقاء المدرسة، ثم بعد ذلك سأله عدة أسئلة عن الشعر وعن أسرته، وفي النهاية قال له: «يوجد نوعان من الشعراء، شيلر وغوته. هل تعرف شيلر؟» - «هل تعني فريدريش شيلر؟» - «نعم، هو، لا يجب عليك أن تكون مثل شيلر. بل يجب عليك أن تكون مثل غوته.»
كان الفتى متجهم الوجه أثناء عودته إلى فصله بعد أن خرج من مكتب المشرف بسبب عدم رضاه، وكان يجر رجليه جرا، فهو لم يكن قد قرأ من قبل أيا من أعمال شيلر أو غوته، ولكنه يعلم صورتيهما فقط. - «أنا أكره غوته، نعم أكرهه، فهو عجوز طاعن في السن، أنا أحب شيلر أكثر.»
كان «ر» رئيس نادي الأدب، الذي يكبر بالفتى بخمسة أعوام كاملة، يعتني به. وكان الفتى يحب «ر» كذلك، والسبب أن «ر» كان يعتقد في نفسه بوضوح أنه عبقري ليس له مثيل، وهو قد اعترف بعبقرية الفتى بدون النظر إلى فارق السن بينهما؛ ولأنه من الضروري أن يصبح العباقرة أصدقاء لبعضهم البعض.
كان «ر» هو الابن الأكبر لعائلة من النبلاء؛ ولذلك فقد تقمص دور الشاعر الفرنسي أوغست دوليل آدم، ويفخر بنسب عائلته العريق، ويكتب أعمالا يبث بها مشاعر رثاء جمالية تجاه تقاليد النبلاء القدماء وفنونهم وآدابهم، كذلك قام «ر» بتجميع أشعاره وكتاباته القصيرة في كتاب، ونشره على حسابه الخاص، وهو ما جعل الفتى يشعر بالغيرة تجاهه.
كان الاثنان يتبادلان يوميا رسائل طويلة. وكانت عادة كتابة الرسائل اليومية ممتعة بالنسبة للفتى. تقريبا كل صباح كان يصل لعنوان الفتى رسالة من «ر» في مظروف غربي الطراز مشمشي اللون. مهما كان سمك الرسالة فكان يمكن معرفة وزنها، ولكن خفة تلك الرسائل المنتفخة كانت تسعد الفتى وتعطيه شعورا بأنها مملوءة عن آخرها بالرشاقة، وفي نهاية رسالة كل منهما كانت تختم بما ألفه كلاهما من شعر في ذلك اليوم أو آخر وأحدث أشعارهما، وكانا يكتبان أشعارهما القديمة إذا لم تكن هناك أشعار جديدة.
صفحة غير معروفة