أما السيدة ديفاين، فبعدما بلغت مرحلة من اليأس التي لا ملجأ منها سوى المزاح، فقد كانت تضحك في سرها قائلة: «أوه، حقا، الرجال جميعهم على الشاكلة نفسها. لا فائدة من محاولة توجيههم؛ ذلك جهد عبثي لا يجلب للمرء سوى الضيق والإزعاج.» يوجد نوع خاص من الرضا، ينبع من إحساس المرء أنه يتحمل بصبر بطولي حماقات الآخرين المستفزة. وقد تأتى أخيرا للكولونيل وزوجته التمتع بهذا الإحساس الرائع من الرضا عن الذات.
لكن من انزعج جديا من إيمان الغريب الذي لا يتزحزح بالخير المتأصل في طبيعة كل من كان يقابله كانت الآنسة ديفاين الجميلة الفاترة الهمة. كان الغريب مصمما على أنها شابة تحمل من المشاعر أنبلها، ومن الأخلاق أسماها، وأنها جديرة بمكانة بين جان دارك والبطلة الاسكتلندية فلورا ماكدونالد. إلا أن الآنسة ديفاين، على النقيض، كانت تعلم جيدا أنها مجرد فتاة لا تملك سوى جمالها، ولا تعشق سوى ترف العيش؛ فقد كانت على أتم استعداد لبيع نفسها لأول شار قادر على منحها أرقى الثياب، وإغراقها بأفخر الأطعمة، وإسكانها أفخم البيوت. وكان الشاري المتاح أمامها حاليا هو وكيل مراهنات متقاعد، كان رجلا عجوزا بغيضا بعض الشيء، لكنه فاحش الثراء ومغرم بها دون شك.
كانت الآنسة ديفاين، بعدما عقدت عزمها على قبول هذا الزواج، متلهفة على ضرورة إتمام الأمر سريعا. لذا كان رأي الغريب السخيف فيها لا يثير سخطها فحسب، بل يبث الاضطراب في نفسها. فمن الصعب على امرأة التصرف كما لو كانت أحط الغرائز هي دافعها الوحيد في الحياة، تحت مرأى ومسمع من الرجل الذي آمن بأنها التجسيد الحي لكل ما هو حسن في النساء، مهما كانت حماقته. مرات عديدة عزمت الآنسة ديفاين على وضع نهاية لتلك المسألة بالقبول الرسمي لليد الضخمة والمترهلة لعاشقها الكهل، ومرات عديدة تدخل طيف عيني الغريب المهيبتين الصادقتين ليمنعها من إعطاء جواب نهائي. لكن الغريب كان سيرحل يوما ما. في الواقع، هو نفسه قال لها ذلك، فما هو إلا عابر سبيل. ستصبح الأمور أسهل قطعا عند رحيله. هكذا فكرت.
وفي عصر أحد الأيام دلف الغريب إلى غرفة المعيشة بينما كانت الآنسة ديفاين تقف بجوار النافذة متطلعة إلى الأغصان العارية للأشجار بميدان بلومزبيري سكوير. وقد تذكرت فيما بعد أن عصر يوم ضبابي كهذا شهد مجيء الغريب منذ ثلاثة أشهر. كانا وحدهما في الغرفة. أغلق الغريب الباب وتقدم نحوها بخطواته الوثابة الغريبة. كان قد أحكم إغلاق أزرار معطفه الطويل، وحمل بين يديه قبعته القديمة المصنوعة من اللباد وعصاه الغليظة ذات المقبض الأشبه بعكاز.
قال الغريب موضحا: «لقد جئت لأودعك. إني راحل اليوم.»
سألته الفتاة: «ألن أراك مجددا إذن؟»
رد الغريب: «لا يمكنني القول. لكن أرجو ألا تنسيني.»
ردت الفتاة مبتسمة: «لن أنساك. أستطيع أن أعدك بذلك.»
وعدها الغريب بدوره: «وأنا لن أنساك أبدا، وأتمنى لك كل فرحة وبهجة؛ فرحة الحب، وبهجة الزواج السعيد.»
جفلت الفتاة. ثم قالت: «الحب والزواج قد لا يجتمعان معا في جميع الأحوال.»
صفحة غير معروفة