فأعرب أناندا عن اغتباطه بمعرفة هذين الرجلين الكبيري المقام.
ومضى الملك في كلامه فقال: «يجب أن تعلم أيها التقي الورع أن الحاجة قد نشأت مرة أخرى إلى رياضة النفس على الجلد وإنكار الذات من جانبك، فقد غزا العدو بلادي وألحق الهزيمة بجنودي، وكنت خليقا أن يروعني ذلك ويهولني لولا التعزي بالدين، ولكن اعتمادي إنما هو عليك يا أبي في الروح، ومن المحتم أن نكتسب أعظم مقدار من الفضل في أوجز زمن وأقصر مدة، ولم أستطع أن أستعين على هذه الغاية بالبراهمة أصدقائك القدماء فإنهم الآن، كما تعلم، مغضوب عليهم. ولكني دعوت هذين الخبيرين الموثوق بهما. على أنهما قد اختلفا، فأما رئيس المعذبين فإنه رجل لين رقيق القلب رحيم، ولهذا يرى أنه يكفي في البداية أن نتخذ أخف التدابير كأن نعلقك من رجليك، وندلي رأسك في دخان حطب موقد، ونملأ منخريك بالفلفل الأحمر، أما رئيس الجلادين فإنه على ما يظهر ينظر إلى الأمر نظرة فنية، ويرى أن الأولى أن نلجأ دفعة واحدة إلى الصلب أو الخازوق. ويسرني أن أعرف رأيك في الموضوع.»
فأعرب أناندا - على قدر ما سمح له الرعب بذلك - عن استنكاره الشديد لكلتا الوسيلتين.
فقال الملك بلهجة المذعن لما لا حيلة له فيه: «حسن. إذا كنا لا نستطيع أن نتفق على إحدى الوسيلتين فإنه لا يبقى أمامنا إلا أن نجربهما جميعا. وسنجتمع إذن لهذا الغرض صباح غد في الساعة الثانية. والآن، اذهب بسلام.»
فذهب أناندا، ولكن ليس بسلام، وكان الرعب خليقا أن يذهب بلبه لولا أنه تذكر ما وعده به منقذه. فلما بلغ مكانا يأمن فيه العيون نطق بالعزيمة السحرية. وما كاد يفعل حتى ظهر له، لا الروح، بل رجل من أهل النسك والتقشف رأسه معفر بالتراب والرماد وجسمه مدهون بروث البقر.
وقال الفقير: «إن الأمر لا يحتمل التلكؤ، فاتبعني والبس مراقع الفقير.»
فثارت نفس أناندا على هذا، فقد تلقى عن بوذا الحكيم الوديع الاحتقار الذي يستحقه هذا التقشف الفظيع الذي يحيل المرء إلى ما يشبه الجيفة المرمة. على أن الضرورة لم تدع له حيلة يحتالها، فتبع الفقير إلى مقبرة اختارها الفقير مسكنا له. وهناك أخذ الفقير ينعي نعومة شعر أناندا وقصر أظافره، ثم دهنه على مثاله، وطلاه بالطين والكلس حتى صار الرسول الوديع لأرق دين، أشبه بنمر من نمور البنغال. ثم زين له جيده بعقد من جماجم الأطفال ووضع في إحدى يديه جمجمة شرير، وفي الأخرى عظمة فخذ عراف، ومضى به بعد الغروب إلى المقبرة المجاورة حيث أجلسه على رماد جثة محروقة حديثة وأمره أن يقرع الجمجمة بالعظمة كما يفعل الطبال، وأن يردد التعازيم التي بدأ يطلق الصوت صارخا بها وهو متجه إلى الغرب. ويظهر أن هذه الرقى والتعازيم كانت فعالة فقد ثار إعصار شنيع ونزل المطر كالسيل وأثخنت البروق الخاطفة بقلب السحب، وخرجت الذئاب والضباع من أوجرتها تعوي وترغو، وانشقت الأرض عن عفاريت ومردة تمد أذرعتها المعروقة إلى أناندا وتحاول أن تجره فأطار لبه الفزع وراح يقلد صاحبه ويدق، ويضرب، ويصيح، حتى كاد يشفي على التلف، وإذا بالرياح العاصفة تركد، والأشباح تختفي، بقدرة قادر، وتحل محلها صيحات فرح، ودقات طبول ودفوف، وأصوات معازف، تنبئ بحادث سار في المدينة.
وقال الفقير: «مات الملك العدو، وتفرق جيشه، وسيعزى هذا إلى تعازيمك وهم الآن قادمون في طلبك. فوداعا حتى تفتقر إلى معونتي مرة أخرى.»
واختفى الفقير، ودنا الموكب، وأصبح دب الأقدام مسموعا، ثم ظهرت المشاعل الخافتة النور في الفجر المطلول، وترجل الملك عن فيله وألقى وجهه على الأرض بين يدي أناندا وقال: «أيها الرجل الفذ، لماذا لم تقل إنك فقير؟ لن يساورني الخوف بعد اليوم من أعدائي ما دمت مقيما بهذه المقبرة!»
وطردوا جماعة من أبناء آوى من قبر مهجور أفردوه لأناندا ليسكنه. ولم يسمح الملك بأدنى تغيير في هيئته ولباسه، وحرص على أن يخلو الطعام الذي يقدم له من كل ما عسى أن يفقده القداسة التي بلغ مظهرها غاية ما يطمع فيه الطامع في أقصر وقت، فتلبد شعره واختلط به الوحل، وطالت أظافره، وإذا بزائر جديد من لدن الملك ينبئه أن الراجا أصيب فجأة بمرض خطير خفي، وأن الملك على يقين من أن أناندا سيخف إلى نجدته بالرقى والعزائم.
صفحة غير معروفة