كان هناك خان حسن في «ويتشير»، نزلت فيه مرة، وكان ذلك أيام كانت «ويتشير» تصنع جعتها القوية، وقبل أن تفسد الجعة ولا يبقى منها إلا المرارة. وكان الخان على تخوم سهل سالسبري، وكانت رياح الليل التي يخشخش لها شباكي تهب نائحة من «ستونهنج»، وكان هناك خادم أشيب طويل الشعر، عينه زرقاء كأنها حجر الزناد، وكان لا ينفك شاخصا ببصره مرسلا طرفه إلى بعيد، وكانت دعواه أنه راع قديم، وكان يبدو للناظر أنه يرقب أن يظهر على خط الأفق شبح قطيع من الغنم أكل من أزمنة مديدة. وكان له اعتقاد غريب، هو أنه ما من إنسان يستطيع أن يعد حجارة ستون هنج مرتين، ولا يختلف العدد، وأن من عدها ثلاثا في تسع ثم وقف وقال: «إني أتحدى» ظهر له شبح هائل فيموت على المكان. وقد ادعى أنه رأى الحبارى على النحو الآتي: قال إنه خرج إلى السهل في مساء يوم في أخريات الخريف، فلمح شيئا غامضا يحجل حجلانا
2
متقطعا فظنه لأول وهلة مظلة مركبة أطارتها الريح عنها، ثم توضحه فاعتقد أن هذا قزم قميء على مهر صغير. وراح يتبع هذا الشيء مسافة، ولا يدركه، ويناديه ويهيب به ولا يتلقى جوابا، فجعل يذنبه أميالا وأميالا، حتى لحقه أخيرا، فإذا به آخر حبارى في بريطانيا العظمى، وقد انحطت وفقدت جناحيها وصارت تمشي على الأرض! وآلى ليقنصنها أو يموت، فهجم عليها، ولكن الحبارى كانت قد اعتزمت هي أيضا ألا تموت وألا يقنصها أحد، فكرت عليه وصرعته، وشوهدت بعد ذلك تسير غربا. وهذا الرجل الغريب الشأن لعله كان في تلك المرحلة من تطوره، ممن يمشون وهم نائمون، أو لصا، أو غير ذلك. ولكني استيقظت ليلة فألفيته في الظلام إلى جانب سريري يرتل بأعنف صوت وأقواه، فدفعت إلى الخان حسابه في اليوم التالي ورحلت عن المقاطعة كلها بأقصى ما يسعني من السرعة.
وفي خان صغير في سويسرا وقعت حادثة ليست عادية، وأنا نازل به. وكان الخان أشبه بالبيت، في قرية ليس فيها إلا زقاق ضيق يلتوي بالسالك في الجبل، وكان المدخل الرئيسي للخان من حظيرة البقر، ثم يمر الإنسان بالبغال والكلاب والطيور قبل أن يرتقي في السلم الكبير العاري إلى الغرف التي كانت مصنوعة من خشب بلا تمليس أو دهان أو ورق، فكأنها صناديق للتعبئة. ولم يكن هناك، فيما عدا الخان، سوى الزقاق الملتوي وكنيسة صغيرة ذات قبة نحاسية اللون، وغابة صنوبر، وغدير، ثم الضباب وجوانب الجبل. وكان في الخان شاب اختفى منذ ثمانية أسابيع (وكان الوقت شتاء) وقيل، على الظن، إن حبا له خاب، فانتظم في سلك الجندية. وذكروا أنه نهض من فراشه في الليل وألقى بنفسه في الزقاق من الغرفة التي يشاركه فيها رجل آخر. وقد استطاع أن يتسلل من الفراش ويثب من النافذة ويسقط على الأرض في أتم سكينة، حتى إن زميله ورفيقه لم يسمع أي صوت، وظل مستغرقا في نومه العميق حتى أيقظوه في الصباح وسألوه: «لويز، أين هنري؟» وراحوا يبحثون عنه في كل مكان، ثم يئسوا فأقصروا. وكان هناك أمام الخان - ككل مسكن في القرية - كوم من خشب الوقود، ولكن كوم الخان كان أعلى وأكبر من غيره من الأكوام، لأن الخان كان أكبر المنازل وأثراها وأحوجها إلى الوقود الكثير، وقد لوحظ، أثناء البحث عن الغائب، أن ديكا من ديكة الخان كان يدع رفاقه ويزهد في معاشرة الدجاجات، ويأبى إلا أن يصعد إلى قمة كوم الخشب، ويظل هناك ساعات وساعات وهو يصيح حتى ليكاد ينشق ويتفطر. ومضت خمسة أسابيع، وانقضى الأسبوع السادس، وهذا الديك الفظيع لا يزال يهمل واجباته البيتية، ولا يكف عن الارتقاء إلى قمة الكوم، ولا يفتر عن الصياح وإن كانت عيناه تكادان تخرجان من قوة الصوت وعنفه. ولوحظ في ذلك الوقت أيضا أن لويز امتلأ قلبه بغضا لهذا الديك الفظيع وسخطا عليه، ففي صباح يوم رأته امرأة كانت جالسة إلى نافذتها في خيط من أشعة الشمس الفاترة، تعالج غدتها الدرقية، أقول رأته هذه المرأة يتناول جذلا من الحطب، وهو يسب ويلعن، ويرمي به الديك الصائح على رأس الكوم فيقتله. وفي هذه اللحظة انبثق النور في رأس المرأة فخفت إلى الكوم من الخلف، وكانت تحسن التسلق كغيرها من نساء هذه الناحية، فارتقت إلى رأس الكوم وصوبت عينها ثم انطلقت تصرخ وتصيح: «اقبضوا على لويز القاتل!» وقد رأيت هذا القاتل في ذلك اليوم. وإني لأراه الآن وأنا جالس بجوار الموقد في فندق شجرة الميلاد، وهو مقيد بالحبال وملقى على القش في الإسطبل، وعليه عيون البقر الوديعة، وأنفاسها المتدخنة، وهو ينتظر مقدم البوليس، ويتلقى نظرات السخط من أهل القرية. وكان وهو ملقى في الحظيرة يبدو لي أنه حيوان غليظ - بل إنه أبلد ما في الإسطبل - رأس سخيف، ووجه هو كتلة من البهيمية، ولا أثر هناك لإحساس. وقد كان الشاب المقتول يعلم أن قاتله اختلس مبالغ شتى صغيرة من مال سيده، فيظهر أنه لجأ إلى وسيلة القتل ليخلو له وجه حياته من هذا الذي قد يتهمه يوما ما، بما يعلم. وقد اعترف القاتل بهذا كله في اليوم التالي كأنما أراد أن يفرغ من الأمر كله بعد أن قبضوا عليه وانتووا أن يقتصوا منه. ورأيته مرة ثانية يوم رحلت من الخان. ولا يزال السياف في هذه الناحية يعمل عمله بالسيف، وقد رأيت هذا القاتل قاعدا على كرسي ومشدودا إليه، فوق منصة في سوق صغيرة، وكانت عيناه معصوبتين، ثم لمع سيف صقيل ماض «نصله مسقى بالزئبق» وخفق حوله كالريح أو النار، فلم يبق وجود لمخلوق كهذا في الدنيا. ولم يكن عجبي من سرعة العصف به، بل من أن رأسا من هذه الرءوس المحيطة بالمكان لم يقطفه هذا السيف البتار وهو يقطع الهواء!
وثم خان حسن آخر نزلت به في ظل «مونت بلانك» صاحبته طيبة القلب بسامة الثغر أبدا، وبعلها رجل تقي مستقيم السيرة، وكانت الجدران في إحدى غرفه مكسوة ورقا عليه صور حيوان، ولكن الوراق لم يعن نفسه بالإحكام والدقة في وصل قطع الورق بعضها ببعض، فصار للفيل ذيل النمر ورجلاه ، وللأسد خرطوم الفيل وناباه، وللدب صورة الفهد! وقد صادفت كثيرين من الأمريكيين في هذا الفندق وكانوا جميعا ينطقون اسم الجبل «مونت بلانك» «ماونت» ما خلا واحدا منهم سرى النفس حسن العشرة رقيق الحاشية، اتخذ من الجبل صديقا لا حاجة معه إلى التكلف، فكان يقتصر عند ذكره على «بلانك» فيقول عند الإفطار مثلا: «بلانك يبدو اليوم عاليا جدا.» أو يكون في المساء وهو يتمشى في الفناء فيعرب عن اعتقاده أن في بلاده بعض الأقوياء المغامرين الذين يستطيعون أن يتسلقوا «بلانك» ويصلوا إلى ذروته في ساعتين.
وقضيت مرة أسبوعين في خان بشمال إنجلترا حيث لازمني شبح فطيرة مهولة. وكانت كالقلعة إلا أنها قلعة مهجورة خاوية، ولكن الخادم كان يرى أن من الأصول التي ينبغي أن ترعى في كل وجبة أن يضع الفطيرة على المائدة، وبعد بضعة أيام رأيت أن أفهمه بأساليب شتى رقيقة أني أعد هذه الفطيرة مفروغا منها ولا محل لها على السفرة، فكنت أصب فيها سؤر الكأس وأضع في جوفها أطباق الجبن والملاعق كأنها سلة، أو زجاجات النبيذ كأنها ثلاجة، وكان هذا كله مني عبثا وعناء باطلا لا يجدي، فقد كانت الفطيرة تنظف وتعاد إلى مكانها المألوف، فشككت في أمري وخيل إلي أني لعلي مصاب بهذيان العين، وأشفقت أن تضعضع صحتي وتهد كياني أهوال هذه الفطيرة المتخيلة فتناولت السكين وقطعت منها مثلثا عظيما. وما كان في وسع إنسان أن يرى ما سيكون من وراء أستار الغيب، ولكن الخادم عالج الفطيرة وأصلحها ورمها، واستعان بنوع من الملاط ورد المثلث إلى مكانه، فأديت الحساب وفررت!
وكان فندق شجرة الميلاد قد أخذت الجهامة تستولي عليه فقمت برحلة إلى ما وراء الستر وذهبت إلى النافذة الرابعة، ولكن الرياح ردتني منهزما، فعدت إلى مشتاي مرة أخرى وأضرمت النار، واستأنفت نشر ما انطوى من ذكريات الفنادق.
هو خان في أقصى مقاطعة كورنول. وكان المعدنون يحتفلون فيه بعيد سنوي لهم، فأقبلت أنا وزملائي المسافرون ليلا على الجمع المائج وهم يرقصون أمام الخان على نور المشاعل. وكانت مركبتنا قد أصابها عطب في مكان صخري على مسافة أميال، فكان من دواعي الشرف لي أن قدت أحد الجياد المحلولة. وإذا كتب لسيد أو سيدة، ممن يقرءون هذه السطور، أن يقود حصانا ضليعا عاليا تتدلى ربطه وسموطه وأبازيمه
3
إلى قوائمه، وأن يمضي به وفي يده عنانه ويدخل به على حفلة راقصة ريفية فيها مائة وخمسون زوجا من المتراقصين، فإن هذا السيد - أو السيدة - يستطيع حينئذ - وحينئذ فقط - أن يتصور كيف يدوس الحصان قدمي قائده! والأرجح أن يرتد الحصان متهيبا حين يرى ثلاث مائة من الرجال والنساء يدورون أمامه، وقد يرفس ويضرب برجليه أيضا على نحو لا يحفظ لقائده سمته وأبهته. وعلى هذه الصورة التي نالت قليلا من وجاهة مظهري العادي، بدوت أمام الخان فكنت موضع عجب القوم جميعا. وكان الخان غاصا، بل كان فيه عشرون ضعفا لسعته ولا سبيل إلى إيواء مخلوق فيه غير الحصان - وإن كان ربحا ولا شك أن يتخلص المرء من هذا الحيوان الكريم - فوقفنا نتشاور أنا وزملائي في الأمر وكيف نقضي الليل وأكثر النهار الذي سيطلع إلى أن يكون الحداد المرح، والنجار المرح، على حال تسمح لهما بالسير إلى حيث تركنا المركبة لإصلاحها، فخرج علينا رجل من الزحام وعرض علينا طابقا من بيته ذا غرفتين ووعد أن يكون عشاؤنا لحم الخنزير والبيض وشرابنا عليه الجعة، فتبعناه فرحين إلى أنظف بيت نعمنا فيه بالطعام والشراب. ولكن الطريف في الأمر أن صاحب البيت نجار يصنع الكراسي، وأن الكراسي التي قدمت لنا كانت هياكل ليست لها مقاعد، فقضينا الوقت على أطرافها وحافاتها مثنيين إلى الأمام، ولم يكن هذا أسخف ما جربنا، فقد كان أحدنا إذا نسي واعتدل، أو ضحك وارتمى إلى الوراء، يختفي ويغيب. وقد سقطت، ونحن نأكل اللحم والبيض على ضوء الشمعة، خمس مرات وانطويت على نفسي انطواء لا سبيل إلى الفكاك منه بغير معونة، كما يقع أحد اللاعبين الهزالين في حوض ماء.
صفحة غير معروفة