وكانت دوركاس قد ألفت من زوجها غرابة أطواره فلم تعد تلقي بالها إلى ما يبدو من شذوذها. فوضعت التقويم إلى جانبها وقالت له بتلك اللهجة الشجية المعهودة التي يتخذها رقاق القلوب حين تكر بهم الذكرى إلى أحزانهم القديمة التي خمدت نارها: «لقد ترك أبي هذا العالم إلى آخر خير منه في مثل هذا الشهر منذ ست عشرة سنة. ولكنه لم يعدم ساعدا قويا يسند رأسه وصوتا حنونا يخفف عنه غصص الموت يا روبن. إن عنايتك به ووفاءك له قد عزياني مرارا كلما جشأت نفسي وجاشت. ألا ما أهول الموت على المستفرد الوحيد في مثل هذا المكان الموحش!»
فقال روبن بصوت متهدج: «ادعي الله يا دوركاس ألا يدرك الموت أحدنا نحن الثلاثة وهو وحيد، وألا يبقى بغير دفن في هذه الغابة العاوية.»
وأسرع ومضى عنها وتركها تنظر إلى النار تحت الصنوبر.
وخفت وطأة روبن وأبطأت رجله لما خفت حدة الألم الذي أحدثته له دوركاس بما قالته عفوا. ولكن الخواطر الأليمة كانت تتزاحم وتتدافع في رأسه فكان يمشي كالنائم لا كالصائد. ولم يكن عن قصد منه أنه بقي على مقربة من الكوخ فقد كانت رجله كأنما تدب به دائرة. ولم يفطن إلى أنه قد صار على رأس طريق مكتظ بأشجار السنديان وغيره من الأشجار العظيمة. وكانت أصول الشجر قد نمت عليها وازدحمت حولها الأغصان النابتة وبقي ما بين الشجر عاريا لا يكسوه إلا الورق الذاوي المنتثر. وكان روبن كلما سمع حفيف الأغصان أو صوت تمايل الجذوع - كأنما انبعثت الغابة من سباتها - يرفع بندقيته المراحة على ذراعه ويدير عينه بسرعة في كل ناحية. ثم يقتنع بأن لا شيء من الحيوان هناك فيعود إلى ما يدور في نفسه ويضطرب به جنانه. وكان يفكر فيما صرفه عن الطريق الذي كان معتزما أن يأخذه ورمى به قلب الغابة. ولم يستطع روبن أن يتغلغل بعينه إلى مكامن الأسرار من نفسه وأن يهتدي إلى البواعث الحقيقية المكنونة في قرارة الوجدان، فاعتقد أن صوتا من وراء الحس قد دعاه، وأن قوة من وراء الطبيعة قد حالت دون ارتداده، وتمنى أن تكون مشيئة الله قد أتاحت له فرصة للتكفير عن خطيئته، ورجا أن يعثر على العظام التي بقيت هذا الزمن الطويل بلا دفن، فيدرجها في جوف الأرض فتعود إلى نفسه السكينة وتنشر النور بين حنايا ضلوعه التي صارت أحلك من القبر.
وانتبه على حفيف في الغابة على مسافة من الموضع الذي تقوده إليه رجلاه، ولمح حركة وراء النبات الأثيث الملتج، فأطلق بندقيته بدافع من غريزة الصياد وبإحكام الرامي المدرب. ولم يلتفت إلى الأنة الخفيفة التي تنبئ بإصابة المرمى، والتي يستطيع حتى الحيوان أن يعرب بها عما يعاني من أخذ الموت بكظمه.
ولكن ما هذه الذكريات التي بدأت الآن تطوف برأسه؟ ...
لقد كان الموضع المعشوشب الذي أطلق روبن بندقيته قريبا من قمة مرتفع من الأرض ومن أصل صخرة ملساء كأنها حجر ضخم مما يرفع على القبور. وكانت تبدو لروبن كأن لها صورة معكوسة في مرآة ذاكرته - بل لقد تذكر تلك العروق الجارية على وجه الصخرة كالكتابة بلغة منسية - كل شيء بقي كما كان سوى أن النبات الكثيف غطى أصل الصخرة، فهو يستطيع أن يحجب رفات روجر مالفن لو أنه بقي كما تركه قاعدا هناك، ولكن عين روبن لم تلبث أن أخذت بعض ما أحدثه الزمن من التغيير مذ كان واقفا هنا وراء جذع الشجرة الذاهبة في الهواء، وذلك أن العود الذي ربط إليه الخرقة الملطخة بالدم قد نما واشتد وصار شجرة عظيمة كثيرة الفروع المورقة، وإن كانت لم تستوف كل حظها من النماء. وقد رأى روبن في هذه الشجرة ما جعله يضطرب، فقد كانت الغصون الوسطى والسفلى ترف فيها نضرة الحياة، وكانت الخضرة اليانعة تحف بأصل الشجرة، ولكن آفة على ما يظهر أصابت قمتها فبدا الغصن الأعلى ذاويا جافا ميتا. وتذكر روبن أن الخرقة التي نشرها كالراية كانت تخفق على هذا الفرع لما كان أخضر وريقا، فأي خطيئة يا ترى عصفت به وأذوته ...؟ ومن عسى أن يكون ذاك الذي اقترفها ...؟ •••
وكانت دوركاس تواصل عملها في إعداد الطعام بعد أن تركها زوجها وابنها، وقد اتخذت من ساق شجرة غليظة متجدعة مائدة نشرت على أعرض موضع فيها منديلا ناصع البياض، ورتبت فوق هذا ما بقي عندها من الأوعية المعدنية التي كانت تزهي بها في بيتها. وكان لهذه البقية من الأدوات المنزلية منظر غريب في قلب الغابة الموحشة، وكانت الشمس الغاربة لا تزال تضيء قمم الأشجار القائمة على الربى. ولكن ظلال المغيب كانت قد ارتمت وتكاثفت على وجه المنخفض الذي أقيم فيه الكوخ. وكانت النار ترسل ألسنتها فتضيء سيقان الشجر، ويخفق نورها على النبات المحيط بالمكان. ولم يكن في قلب دوركاس حزن، فقد كانت تحدث نفسها بأنه خير لها أن تجوب الغابة مع اثنين تحبهما ويحبانها من أن تكون وحدها بين من لا يعبئون بها.
وشغلت نفسها بإعداد مقاعد من خشب الشجر المتقادم المتجدع المغطى بالورق لنفسها ولروبن ولابنها. وكانت ترسل الصوت في جوف الغابة المظلمة فيرقص على نغم أغنية تعلمتها في صباها. وكانت هذه الأغنية الساذجة التي نظمها شاعر لم يفز بالذكر تصف ليلة شتوية في كوخ على الحدود، حيث كانت الأسرة تمرح وتنعم بالدفء من النار الموقدة، وقد أمنت عدوان المتوحشين بفضل ما تكدس من الثلوج. وكان للأغنية ذلك السحر الخفي الذي تمتاز به الخواطر المبتكرة غير المستعارة. ولكن أربعة أبيات منها كانت تبرز وتضيء وتشع النور والحرارة كلسان النار الذي تصف السرور حوله، وفي هذه الأبيات استطاع الشاعر أن يصوغ السحر بألفاظ قليلة، وأن يستقطر معاني الحب البيتي ويجسد السعادة المنزلية، فصارت الأبيات شعرا وصورة في آن معا.
وكانت دوركاس وهي تغني تحس أن جدران بيتها الذي فارقته تحيط بها هنا، فلم تعد ترى أشجار الصنوبر المظلمة، أو تسمع الأنات الجوفاء التي ينتهي بها نواح الرياح بين الأفنان، ولكن ردها إلى ما حولها طلق بندقية فاضطربت جدا من مفاجأة الصوت، أو من فرط الشعور بالوحدة وهي إلى جانب النار، على أنها ما عتمت أن ضحكت وقد عمر قلبها الزهو بابنها، فقالت تحدث نفسها: «يا له من صائد جميل ... لقد أصاب ابني ظبيا.» فقد تذكرت أن صوت الطلق جاء من الناحية التي ذهب إليها سيراس باحثا عن طريدة. وانتظرت فترة كافية توقعت بعدها أن تسمع وقع قدمي سيراس يعدو إليها ليخبرها بما ظفر به، ولكنه لم يجئ، فأرسلت صوتها المرح بين الأشجار تدعوه إليها: «سيراس ... سيراس ...»
صفحة غير معروفة