وترى هل تختلف محبة الولد باختلافهم في الصفات من الجمال والقبح، والنجابة والغباء، وحسن الخلق وسوء الطبع، والنشاط والكسل، والنجاح والخيبة؛ ونحو ذلك مما تختلف فيه الصفات وتتغاير الطباع؟
وتسألني يا سيدي أن أوضح لك شيئا تبهم عليك في أمر الولد: ذلك بأن حبهم لا شك فيه؛ بل إن هذا الحب من الأشياء الموصولة بالطبع والغريزة، ومع هذا فإنك لترى أكثر الآباء إن لم ترهم جميعا يتمنون لو أنهم لم يكونوا قد رزقوا أولادا! فكيف يستقيم الجمع بين هذا الحب كله للولد، وبين هذا الضيق كله بالولد؟ أليس من أعجب العجب أن يضيق الإنسان بأحب الأشياء إليه، ويبرم بأشد ما يكلف به في الدنيا، ويتمنى أن لو لم يكن بعد ما قد كان؟
ثم تعود فتلح علي في أن أصور لك هذا اللون من الحب تصويرا صادقا واضحا حتى تشعر بأن لك أولادا تحس حبهم وتتذوقه كما يحسه ويتذوقه الآباء! •••
أما بعد، فلقد سألتني شططا وجشمتني عسيرا، بل ما أراك تجشمني من الأمر إلا محالا! فكيف لي بأن أصف لك ما لم يقع قط عليه حسك، وأن أجلو على نفسك من ألوان العواطف ما لا صلة لها به ولا سبب، وإن مثلك في هذا لكمثل من يستوصف طعم الكمثرى، أو لون البنفسج، أو نغمة العراق، أو رائحة الياسمين؛ ليدركها إدراك من قد طعم أو رأي أو شم أو سمع! اللهم إن هذا الذي تجشمني يا سيدي ليس في طوقي ولا في طوق اللغة؛ فإن هذه المعاني التي لا تدرك إلا بالحس، لا يمكن أن يغني في تذوقها الوصف!
بل إنني وإياك لقد نشترك في الشعور بمعنى من هذه المعاني، ولقد تترقرق في نفوسنا بإزائه عاطفة واحدة، ومع ذلك يعيي علينا كلينا البيان في جلوها والترجمة عنها، فإذا بدا لأحدنا في أي وقت أن يذكرها لصاحبه لم يزد على أن يشير إليه بأن يبعثها في نفسه ويستحضرها استحضارا، وتلك لغة الإحساس.
اللهم إن جهد اللغة في هذا الباب أن تقرب هذه المعاني، لمن لم يسبق له أن يحسها ويلابسها، بفنون التشبيه والتمثيل: كأنه يقال: إن طعم كذا شبيه بطعم كذا، أو إنه بين الحلو والحامض مثلا، وإن عبير هذه الزهرة شبيه بعبير ذلك النوع من الزهر لولا أنه أشد أو ألطف مثلا، وكل ما يمكن أن يعطي هذا - مهما يعل بيان الواصف ومهما يدق وينفذ - إنما هو صورة تقريبية، أما أن ينفضه بالبيان على الحس حتى كأنما يذاق حقا فذلك مما يوصل بالمحال!
وأنت ترى أنه لا سبيل حتى إلى جلو هذه الصورة التقريبية الناقصة لشيء من هذه المعاني إلا بردها إلى شيء سبق أن وقع عليه الحس ولابسه الشعور. •••
على هذا سأتحدث إليك يا سيدي، عن حب الولد، سأتحدث إليك وأنا واثق أتم الثقة بأنني عاجز أشد العجز عن أن أنفض عليك كثيرا من هذا الشعور الذي تنطف به كبدي، فيشيع في جميع نفسي، ولقد تعلم أن كلمة الحب تنطوي على ألوان من الحس كثيرة قد تقترب اقترابا شديدا، وقد تفترق افتراقا شديدا، ومهما يكن من هذا الافتراق وذلك الاقتراب، فإن للحب في كل موضوع كيفا خاصا وشعورا مستقلا لا يشركه فيه سواه، فللحياة حب، وللجمال حب، وللذات حب، وهكذا، على أنك تحس لهذا الضرب من الجمال غير ما تحسه لذلك الضرب من الجمال، وتشعر لهذا اللون من اللذة غير ما تشعر لذلك اللون، إذن فاعلم أن حب الولد غير أولئك جميعا.
حب الولد غير حب الزوج، وغير حب الوالدين، وغير حب الإخوة وأبنائهم؛ هو حب له طعم لا تذوقه في شيء من كل أولئك، هو مزج من الرحمة والحنان، ومن السعادة والجمال، ومن الطرب والشجى، ومن الطمأنينة والقلق، ومن الأثرة والإيثار، ومن الخوف والرجاء ، هو مزج من هذا كله مختلط، يموج بعضه في بعض، فيخرج له ذلك الطعم الخاص الذي لا يكون إلا بمجموع هذه المعاني، وإن كان أظهر عناصره الرحمة والحنان.
لعلك يا سيدي قرأت قول الشاعر العربي:
صفحة غير معروفة