ولقد ضربه المرض بذات الجنب، فما برح يرق وينحف، ويهزل ويضعف، ولكنه إذا تحدث عنها خلت أن أرماق نفسه قد تجمعت كلها في لسانه، فترى منه في ذاك أقوى القوة، وتشهد منه أفتى الفتوة؟
ويدعوني إليه ذات يوم، فوافقته، فإذا هو مشرق الوجه، مرح النفس، لولا المرض يثقله لما وسعته الدنيا طربا ومراحا، فأقبلت عليه بالهناء على مدخل العافية، وسألته الخبر ، فضحك ضحكة طويلة مزقها عليه السعال، فلما سكن وتطامن، قال: احزر؟ فقلت: لا أحزر إلا أن يكون جاءك خبر من عند صاحبتك فقال: إي والله، فلقد جاءتني جارية لها تقول لي: إن فلانة قد عادت إلى القاهرة واستقرت فيها، وهي تدعوك إلى زيارتها لتسألك في بعض شأنها، وإنها لفي انتظارك الآن لو تهيأ ذلك لك، وإلا ففي غد أو بعد غد، فخففت من فوري مع الجارية، ولقد والله وددت لو أستحيل في طريقي إليها حمامة، أو أنتفض نعامة، حتى أستمتع برؤيتها الوقت كله، فلا تزاحمني على هذا المتاع مسافة الطريق.
وتلقتني مرحة في جد وتوقر، وسلمت عليها في أدب وتحشم، واتخذت لها مقعدا لا هو بالقريب مني، ولا هو بالبعيد عني، وتحدثنا ساعة في مثل أحاديث الناس، وجعلت تقص علي بعض ما لقيت في تلك السنين، وهي لا تفتأ الفينة بعد الفينة تسألني عن شأني وما تغير بعدها من أسبابي، فأجر لها الجواب جرا، لأنني إنما كنت مشغولا عنها بها! ثم أفضت إلي بمسألتها، وزعمت لي أنها فكرت فلم تر لها مسعدا فيها غيري لما بين أهلينا من وثيق الصلة، إلا أن يكون علي في الأمر غضاضة أو أن تلحقني فيه مشقة، وأنا أحلف لها بكل مؤثمة من الأيمان أنه ليس هناك أية غضاضة ولا أية مشقة، وأنها في تحرجها جد مبالغة، ثم استأذنتها وانصرفت.
فقلت له: وهل منعك الحياء أيضا من أن تباديها بحبك؟ فقال: كلا! فلم يعد للحياء علي من سبيل؛ ولكنني كرهت أن أفعل لكيلا أتهم عندها وعند نفسي بأنني أقتضيها على مسعاتي لها أجرا، قلت: فماذا صنعت؟ قال: سعيت لها مسعى صغيرا رد الله به حقها عليها، ولقد تعاظمها الأمر فأرسلت إلي جاريتها تشكرني وتستزيرني، قلت: فماذا أنت صانع؟ قال: سأظل أياما أخر أتقلب على مثل جمر الغضى، وأعاني من الشوق واللوعة ما أعاني، حتى تتراخى الأيام بتلك المسألة؛ وحينئذ أزورها وأسكب بين يديها كل غرامي وولهي، فلم يبق في فضل لصبر ولا لكتمان، وودعته على أن يطالعني بما سيكون من أمره معها. •••
وفي أصيل يوم صافي الأديم، عليل النسيم، أرسل من يدعو بي إليه، فوافيته فإذا هو أنحل من الطيف، وأرق من سحابة الصيف، فما إن رأيته قط، وا حسرتاه، متداعيا متهدما كما رأيته في ذلك اليوم؛ على أنني رأيت في عينيه بريقا حديدا، وعلى شفتيه الذابلتين ابتسامة تشف عما وراءها من حرقة ألم، وشدة أسى وندم، فقلت له: ما لك؟ فقال: لقد زرتها اليوم ولم ألبثها، بل اقتحمت عليها، وجثوت بين يديها، وبثثتها ما أعاني فيها من الهوى، وما أجد من حرق اللوعة ومن برح الجوى، فعراها أول الأمر شيء من الذهول، وجعلت تدير في نظرا حائرا، وظلت على هذا برهة، فلما عادت إليها نفسها سألتني عن مبدأ هذا الحب وكيف نجم، فرحت أقص عليها حديثي من أوله إلى آخره، فجعلت تعجب لأمري في ذعر وندم، وتسألني: لماذا لم أصارحها بهواي كل هذا الزمان الطويل؟ ولماذا سمت نفسي كل هذا العذاب الأليم، والخطب لو قد باديتها بحبي، وعزمي على التقدم لخطبتها كان أيسر وأهون، لأنها لم يكن يعجزها أن تروض الصعاب، وتذلل العقاب،
4
واندفعت تبكي وتنشج، واندفعت أنا أبكي وأستعبر، حتى بلغنا من البكاء غايتنا، ولكل سائلة قرار، وأخذت بيدي وأجلستني إلى جانبها، وأنشأت تمسح ما انهل من الدموع على خدي، وتمر يدها لينة رفيقة على كتفي كأنها تدلل طفلا.
ثم أقبلت علي تعاتبني على أن أخرت مكاشفتها بهواي حتى تولى الصبا، وجفت أنوار الربى، وآذن البدر بالأفول، وأشرفت الوردة على الذبول، وأوشك أن يحزن
5
أملود
صفحة غير معروفة