6
خيال الشاعر بين الطبع والصنعة1
لعل من الفضول أن يقول قائل: إن الشاعر يتكئ أكثر ما يتكئ في فنه على الخيال، أما العالم فوجهه كله إلى الحقائق مادية كانت أو معنوية، ذاتية كانت أو نسبية، نعم لقد يكون هذا من فضول الكلام إذا قرر لذاته، ولكنه يرتفع عن هذا الموضع إذا سيق لتوجيه بعض القضايا التي قد تدق على كثير أو على قليل من الأفهام، ولعل الموضوع الذي نعالجه اليوم من هذا الطراز.
وبعد، فإذا كان شعر الشاعر إنما يتكئ أكثر ما يتكئ على الخيال، فاعلم أن هذا الخيال مهما يغل، ومهما يحلق ويرتفع، ومهما يستحدث ويخترع، ومهما يلون من الألوان، ويشكل من الأشكال، فإنه مستمد في تصرفه جميعه من الحقائق الواقعة، مبتدئ لا بد منها، منته لا مفر في الغاية إليها، فمن الحقائق الواقعة مادته، وهي مستعاره في كل ما سوى وفي كل ما صور وشكل ولون.
وذلك بأن الإنسان مهما يرزق من شدة العقل ويؤت من قوة الخيال، لا يستطيع أن يتصور شيئا لم يقع عليه حسه، وكيف له بهذا والحس وحده هو السبيل لا سبيل غيره إلى إدراك الإنسان، وإلى إدراك الحيوان، فدنيا الحيوان هي ما يحيط به ويشهده في مضطربه لا أكثر؛ ودنيا الإنسان في الواقع، هي ما يرى وما يسمع، وما يدرك من الحقائق بسائر الحواس الأخرى، وليس يعدو العلم من طريق القراءة حاستي السمع والبصر، بل إن هذا الإنسان نفسه لو قد كف من أول مولده في محبس لما قدر أن دنياه شيء غير ما هو فيه، وما يتصل من الأسباب بما هو فيه، ولقد يعمد ذهنه إلى التقصي، ولقد يتبسط في القياس، ولقد يذهب في إدراك ما لم يشهد إلى قريب أو إلى بعيد، ولكنه في النهاية لن يقع على جديد لا يتصل بمحيطه، ولا يرتبط بأسبابه.
2
لك الحق بعد هذا الكلام في أن توجه هذا السؤال: إذا كان الخيال لا يمكن أن يعدو الواقع الذي يدركه الحس فما الفرق بينه وبين الحقيقة؟ أو ما الفرق بين أخيلة الشعراء وبين حقائق العلماء؟
لقد توجه بادئ الرأي هذا السؤال، على أنك لو فكرت وتدبرت لبان لك الفرق بينهما دون جهد في التفكير والتدبير: فالعالم إنما يطلب الحقيقة كما هي، سواء أكان ذلك بأخذها كما قررها مقرروها، أم باستظهارها أم باستكشافها، أم بنحو ذلك من وسائل إصابتها والتهدي إليها، أما الخيال فإنه يعمد إلى الحقائق الواقعة فيتناولها بالتأليف والتلفيق، ويأخذها بالتشكيل والتلوين، حتى تستوي له منها صورة توائم في قوتها وروعتها وتناسقها حظ مسويها من قوة التخييل، وجودة الصنعة، ودقة الذوق، والعكس في العكس.
فقد بان لك أن الصورة المتخيلة مهما يغل فيها صاحبها ويطرف، ومهما يبعد بها عما طالعه الفكر، فإنها مشكلة من حقيقة واقعة، أو ملفقة من حقائق واقعة، ولست أصيب مثلا لتوضيح هذا الكلام أحسن مما أجراه أصحاب المنطق من التمثيل للممكن العقلي - المستحيل الوقوعي - بقيام جبل من الذهب، وتموج بحر من الزئبق، فذلك وإن كان غير واقع بالفعل، مما يمكن إيقاعه في الذهن بالتلفيق والتشكيل: فالجبل موجود والذهب موجود، والبحر كائن والزئبق كائن، وكل سعي الخيال في تجلية مثل هذه الصورة هو استعارة هذا المعدن لذلك الجرم ، فيكون جبل الذهب، ويكون بحر الزئبق.
كذلك تستطيع أن تفرق بين الشاعر والعالم، بأن الشاعر في الجملة معط، أما العالم في الجملة فآخذ، الشاعر يبتكر ويستحدث بقلب الحقائق والتلفيق بينها وإفراغها في غير صورها وتلوينها بغير ألوانها، أما العالم فأبلغ جهده في تلقي الحقائق، فإذا كان له فيها استحداث أو ابتكار فبمجرد الانتفاع بما انكشف له فيها من الآثار، وما جلي عليه من مكنون الأسرار.
صفحة غير معروفة