ولم يصارحني برأي، على أنني قد اطمأننت إلى أنني لن يمسني سوء من أثر فعلي، وأحمد الله تعالى أن أحد هذين الشيخين قد خرج بالسن، ولا أدري ماذا صنع الله بالآخر، وأمثالهما - لا أكثر الله من أمثالهما - في القضاء غير كثير.
وهنا مسألة يجب أن تثار وأن يبت فيها بالرأي: إذا مالت أغلبية القضاة إلى حكم واضح الشذوذ أو ظاهر السخف، فهل يحق للقلة أن تنسحب ضنا بكرامتها على الابتذال، أو يجب عليها الخضوع لحكم الكثرة طوعا لظاهر نص القوانين؟ اللهم إن كان الثاني فيا ويل الأقليات من الأكثريات!
ولعل لي عودة إلى بعض ما عانيت من هؤلاء في محنة القضاء!
يا خسارة! ...
لي صديق شاب أحرز إحدى الشهادات العليا من بضع سنين، وظل يسعى إلى «وظيفة» حتى اهتدى من نحو شهر إلى «وظيفة» لا يدركها إلا إذا جاز إليها «امتحان مسابقة»، فأكب المسكين على الكتب، وما بقي عنده من «مذكرات» أساتذته، وراح يجهد نفسه في مراجعة ما تلقاه من فنون العلم، ودام على هذا قرابة شهر، وكلما قابلته وسألته في شأنه أدخل الطمأنينة على نفسي بما راجع من مسائل العلم وما استذكر وما حصل، حتى أضحى أمله في السبق إلى «الوظيفة» معقودا والحمد لله!
ولقد لقيني أمس فإذا هو مغيظ محنق، يشكو الزمان ويلوم صرف الدهر! لماذا؟ لأنه قد وفق إلى «وظيفة» أخرى سيعين فيها بغير امتحان، ففيم كان جهده وتعبه في مراجعة الكتب، واستظهار ما عمي عليه من مسائل العلم، وراح يلعن الدهر الذي لم يسق إليه هذه «الوظيفة» الجديدة قبل أن يصنع ما صنع!
فأجبته من فوري «يا خسارة!»، فأومأ برأسه يؤمن على توجعي لحاله في لوعة وحسرة! وانطلق مشيعا بضراعتي إلى الله تعالى أن يعوض عليه ولو بجهل ما علم، ونسيان ما استذكر! والله على كل شيء قدير!
بين القاضي والمأمور
كان قد وقع خلاف في الرأي في مجلس ببا الحسبي بين القاضي الشرعي ومأمور المركز أثناء نظر إحدى القضايا، ثم استحال الجدل إلى مهاترة، فمشاتمة، فاشتباك بالأيدي، وقد كان الضرب الذي كاله المأمور لصاحبه قاسيا مؤلما، ولولا لطف الله، ودخول الحاضرين بينهما، لكانت فيها نفس القاضي المسكين. وقد كتب المؤلف هذه الكلمة عقب الحادث، ونشرها في «الأهرام» في يونية سنة 1916.
سبقت «الأهرام» إلى ذكر تلك الحادثة الجلية التي وقعت في مجلس ببا الحسبي بين فضيلة القاضي الشرعي وحضرة مأمور المركز.
صفحة غير معروفة