ولقد كانت دور «السينما» تعرض من حيل اللصوص والقتلة، وأسباب غدرهم وفتكهم ما بعث الحكومة على مراقبة ألواحها ضنا بأحلام الفتيان، عصمة لأخلاقهم من أن يشيع فيها الفساد بحكم المحاكاة والتقليد، وهي على كل حال دور مقصورة لا يغشاها إلا القليل بالقياس إلى سائر الناس، إلى أنها لا تقوم إلا في المدن وحواضر البلاد، فكيف بهذه الأغاني وهي تطير إلى الناس من كل جانب، وتملك عليهم أقطارهم من جميع المذاهب، وتسلك الأكواخ وتقتحم القصور، ولا يسلم على أذاها حتى المكفوفات في الخدور، فأنى دارت الآذان، سمعت صلصلتها من كل حلق وجلجلتها على كل لسان!
وإن شططا تكليف الحكومة أن تنشر في الشوارع والدور شرطها وعسسها ليقبضوا على أصحاب هذه التلاحين، كما يقبضون على المتجرين في الكوكايين، ويصادروا كل ما في الأفواه من هذه «الطقاطيق»، كما يصادرون ما في الجيوب من تلك المساحيق، فذلك مما لا يتسع له الذرع، والمخلص أن ينهض جماعة من أئمة الأدب وأعلام الموسيقى، فيدافعوا هذا الوباء، ويداووا بالتي كانت هي الداء، فينظم أولئك ما يخف على السمع من معان شريفة، في ألفاظ حلوة لطيفة، تبعث الهمم، وترفع الأنوف إلى موضع الشمم، ويخرجها هؤلاء في تلاحين تثير الطرب وتهز الأريحية هزا! •••
وبعد، فتالله لو كان لي بعض ثروة «فلان» باشا لأجريت على هذه الجماعة من مالي ما يغنيها ويتضمن لها طول الحياة، فإذا شق هذا على النفس، فحسبه أن يفتح الباب، ويبدأ قائمة الاكتتاب، فإذا شق هذا على النفس أيضا، فإني أرجوه أن يدعو إليه كلا من رصفائه «فلان» باشا، و«فلان» بك، والسيد «فلان»، فيقرءوا «العدية»، على هذه النية، فما برحت المشروعات القومية تقوم ببركة أسمائهم، وتنجح بحسن توسلهم ودعائهم، اللهم آمين!
التجديد والمجددون1
سيداتي، سادتي
أتحدث إليكم الليلة في التجديد والمجددين، فإننا الآن في شبه ثورة، بل في ثورة بالقديم من الآداب والفنون: فهناك ثورة في البيان، منظومة ومنثورة، وهناك ثورة في الموسيقى، وهناك ثورات في غيرهما من الفنون، وكل أولئك إنما يعبر عنه بالتجديد، ويعبر عن المضطلعين به بالمجددين، وإني لأخشى في التعبير بكلمة «الثورة» أن أكون من المتجوزين! وقبل أن أخوض في لجة الموضوع، أرجو أن تأذنوا لي في أن أعرض عليكم نموذجا مما سلف لي من الرأي في هذا الباب، وأرجو أن يكون كافيا في استراحة إيمانكم إلى أنني لست من الجامدين المتشبثين بلزوم القديم، بل إنني لأطمع في أن يقنعكم بأنني من أشد أنصار التجديد والمجددين، ولكن على صورة أحب أن يتفطن إليها بعض هؤلاء المجددين!
قلت من رسالة في الذكرى الثانية لوفاة أمير الشعراء المرحوم أحمد شوقي بك:
إذا كان من آيات الحياة في الكائنات تطورها ونموها وتجددها، فالأدب ولا شك من هذه الكائنات التي لا تكتب لها الحياة إلا على التطور والنمو والتجديد، وإلا كان ميتا، أو أشل على أيسر الحالين!
ولكنني أحب أن ألفت النظر في هذا المقام إلى مسألة قد تدق على أفهام الكثير أو القليل، وتلك أن هناك فرقا بين التربية والتجديد، وبين المسخ والتغيير، ولست أجد مثلا أسوقه في هذا الباب خيرا من حياة الطفل وحياة النبات: كلاهما ينمو ويربو، وكلاهما يطول ويزكو، حتى يبلغ الحد المقسوم لكماله، وقد تتغير بعض معارفه، وقد تحول بعض أعراضه، ولكنه في الغاية هو هو لا شيء آخر، فحسن الوليد، هو حسن الطفل، وهو حسن الفتى، وحسن الشاب، وهو حسن الكهل وحسن الشيخ، وتلك الفسيلة الصغيرة، هي النخلة الباسقة، كل نما وربا بما دخل عليه من الغذاء، وما اختلف عليه من الشمس والهواء.
لقد أصاب كل منهما ما أصاب من أسباب التزكية والإرباء، فاحتجز منها ما واءمه وما تعلقت به حاجته، ونفى عنه ما لا خير له فيه، ولا حاجة به إليه، ثم أساغ ما أمسك وهضمه، فاستحال في جسم الفتى - مثلا - دما يجري في عرقه، ولحما وعظما يزيدان في خلقه.
صفحة غير معروفة