لقد ألهم الله الأستاذ خيرا، فواتى أمنية تجيش في صدور محبيه والمعجبين به بأن جمع من خطبه البارعة، ومقالاته الرائعة، ما تفرق في الصحف والمجلات، فاستوت كتابا هو في وقته كنز لأولي الألباب، وسيظل فيما يلي من الزمن ذخرا للأعقاب.
وبعد، فلم لا أقف من هذا الكتاب موقف الدليل من المتحف، فهو في الحق متحف حافل بالمفاخر، وكل طرفة من طرفه جديرة بأن تطالع في تدبر وروية، على أنني سأكتفي بالإشارة المجملة إلى ما يتضمنه كل قسم، وأتفادى من سماجة الدليل الذي يعطل بثرثرته مآخذ الذهن من التأمل الصامت فيما تقع عليه العين من روائع الفن، وأحب إليه بل أجدى عليه أن يتملاها نظرا، من أن يترواها خبرا.
الباب الأول: في الأدب
ها هنا يمر المطالع بقلائد وفرائد من خطب وفصول في الأدب لا يخرج يتيمها، ولا يحكم صوغها وتنظيمها إلا قلم البشري ولسان البشري، تحركهما نفس كبيرة الهم، بعيدة المرامي، قلقة في مهاب الأهواء ومثارات المنازع، فياضة بحب مصر، وإيثار العربية الفصحى لها لغة، تتجنب التحقيقات العلمية، والتعاريف المنطقية، وإن تبتغي إلا اقتناع المتأدبين من طريق الباعث الغريزي فيهم، ومن طريق إخبارهم بما يجري عند الأمم الغربية الراقية من مثل ما عندهم، بأن البيان يجب أصلا أن يكون عربيا سليما في اللفظ والأسلوب والاصطلاح، وأن يتكيف مع سلامته ومراعاته لتلك الأصول، فينطبع بطابع الفطرة المصرية التي لها ما تتخيره خاصة من تلك اللغة وتلك الأصول ، فإذا أحيط البيان بهذا النطاق، وصين من تسرب العجمة إليه، فلا مانع يمنع من كل ابتكار وتجديد، على ألا يعدو حدوده، ولا يمس الخصيصة القومية في جوهرها.
يقول في الأدب بعد أن أمسك عن تعريفه، وبعد أن أهاب مرارا بأعلام البيان وأئمة المتأدبين أن يعرفوه أو يدلوا على مواضع التعريفات الصحيحة له، فلم تتدل أقلامهم بجواب:
وعلى كل حال، فإن الأدب إذا لم يضبطه تعريف جامع مانع، فإن موضوعه واضح في مظاهره، وفي الغايات التي يطلبها ويتطاول إليها، فما من أحد إلا يرى أن أبلغ مظاهر الأدب في نفض الأحساس الكامنة، والعواطف الجائشة، وتصوير ما يعتلج في أطواء النفس من ألوان الانفعالات بعبارات موسيقية تتدسس إلى نفس السامع، فتثير منها كل ما يثور في نفس الشاعر أو الكاتب، ولا شك عندي في أن هذا أبلغ مظاهر الأدب وأجل غاياته.
كذلك لقد ضبطت بالشكل كل ما المصري القائم:
وعلى الجملة إنك لو تصفحت هذا الأدب المصري القائم، لرأيته موزعا بين حياة في الجزيرة لعصر الجاهلية وصدر الإسلام، وبين حياة في بغداد أو الأندلس، فيما يلي ذلك العصر، وبين حياة في لندن أو برلين أو باريس أو روما أو موسكو، ولكن أين هذا الأديب الذي يعيش في مصر ويصور عواطفه المصرية التي يلهمها ما ينبغي أن يلهم المصري من عواطف وإحساس؟
ثم يعود فيفصل بعض الشيء ما أراده بالأدب العربي القومي، وما أبلغ الكلام الذي أوحي إليه في هذا الغرض، ومنه قوله:
إذن لا مفر لنا من أن نلتمس أدبنا القومي، ولا يكون هذا الأدب إلا عربي الشكل والصورة، مصري الجوهر والموضوع، وإذن فقد حق علينا أن نبعث الأدب العربي القديم، وننثل دواوينه، ونستظهر روائعه، ونتروى منها بالقدر الذي يفسح في ملكاتنا، ويقوم ألسنتنا، ويطبعنا على صحيح البيان، فإذا أرسلنا الأقلام في موضوع يتصل بالآداب، بوجه خاص، أطلقنا القول في صيغة عربية لا شك فيها، على ألا نطلب بها إلا الترجمة عما يختلج في نفوسنا، ويتصل بإحساسنا، ونصور بها ما نجد مما يلهمه كل ما يحيط بنا، وما يعترينا في مختلف أسبابنا من فكر ومن شعور ومن خيال.
صفحة غير معروفة