8
مرت كإيماضة البرق، أو كما قال البحتري: «خطرة البرق بدا ثم اضمحل»، وسرعان ما أحسست لونا من شرود في الذهن يسير لم يقطع ما بيني وبين ما حولي، فإني لأرى الأرض، وأفرق بين أخضرها ويابسها، مساكنها وخلائها، وأرى الترع في اختلاجها وتأودها،
9
فإذا أقبل علي أحد بالحديث تفهمت ما يقول، على أن ذلك كان يجشمني شيئا من حد
10
الذهن، ولقد أجيب عما أسأل عنه في غير تتعتع، إلا أنني كنت أوجز القول ولا أطيل، لأن ذهني لم يكن أكثره بملكي فإن شيئا قويا لينازعني نزاعا عليه!
فإذا عدت إلى نفسي، فرددت طرفي إلى جوف الطيارة، أو أغمضت عيني، وانقطع ما بيني وبين سواي ، لا أعود أشعر بشيء، أو أنني أشعر شعورا غامضا مبهما، لا هو بالخوف ولا هو بالأمن، ولا هو بالرجاء ولا باليأس، ولا هو بالسرور ولا بالحزن، ولا هو بالتفكير في النفس أو الولد أو أي شيء من تلك الأسباب التي كنت من قبل أقدر دوران الفكر فيها، ونزوع الهم كله إليها، بل إنني في هذه الحال، لا أفكر في أنني على جناح الريح، وعلى الجملة لقد كان شعوري في تلك الساعة أشبه ما يكون بشعور الرجل تهيأ للنوم ولما يزل على جناح السنة، هذا شعوري أديته إليك بقدر ما واتاني القلم.
ويتركني صحبي على هذا فترة لا أدري: أطويلة هي أم قصيرة، إلى أن بعثني حسني، حسني أيضا، بحديث «الغراب»، فعرفت أن كنانة الخبيث ما برحت حافلة بالسهام؛ وكان السهم هذه المرة أمضاها ظبة
11
وأصلبها مكسرا، فاسمع يا سيدي لا أسمعك الله حديث «الغراب»، وخاصة إذا كنت معلقا بين التراب والسحاب.
صفحة غير معروفة