وبعد، فلعلك عرفت لماذا يخادع المرء الناس على سنه، بل إنه ليخادع عليها نفسه، ولعله في هذا حق معذور، فلقد طالما وصل المستقبل بسعادات وارتبطه بها، حتى ما يستطيع تصوره بغيرها، ولا تمثله متجردا منها، فكلما مر عليه يوم لا تواتيه تلك السعادات لا يراه مما ينبغي أن يحسب في مدة العمر، ولا مما يجوز أن يعد عليه فيه! فهذه علة تعاظمه لدخوله في السن واستثقاله لتذكيره إياه.
اللهم إننا لنتهاون شأن الذبابة، ونستحقر هذه الحياة التي تحياها، ولو قد تفطنا إلى الحق الواقع لعرفنا أنها أسعد منا عيشا وأنعم حالا، لأنها لا تشتغل إلا بالحاضر، وهو الحق المحس الذي يذاق ويستشعر حقا، فلا يتفرق حسها بين الأسى على ما فات في سالف الأيام، وبين التعلق في المستقبل بكواذب المنى في كواذب الأحلام!
فيا الله ما أخس حياة تنتهي بالإنسان إلى التراب، وهو لا يتذوق منها بعض ما ينال هذا الذباب!
وإذا كان لنا معشر الناس أن نأسى على شيء في هذه الحياة الدنيا، فليكن أسانا على أننا ننفقها في الأسى على ما قد فات، وطول التأميل فيما هو آت، وهكذا نجوز بالدنيا فلا نستشعر منها إلا آلاما، ولا نذوق إلا منى وأوهاما، وصنع الله لهذا الشاعر في كذبه على كذب الآمال:
منى إن تكن حقا تكن أعذب المنى
وإلا فقد عشنا بها زمنا رغدا
لا صحة إلا في المرض!1
لست أدري لماذا لا نتذوق صحة الأبدان ولا نستشعرها ما دمنا فيها؟ أترى لأنها شيء سلبي لا يذاق ولا يحس؟ أم لأنها كسائر نعم الحياة قل أن يقدر المتقلب فيها قدرها، أو يعظم المتمكن منها خطرها؟ أم أن ما تجد الأيام من أشغال الدنيا وهمومها ومطالبها مما يحول بين المرء وبين تذوق الصحة والالتذاذ بالعافية؟
اللهم إنني لا أقطع في هذا بشيء من وجوه التعليل ألبتة، ولكن الذي أقطع به ولا أراني أتحول عنه أن الإنسان لا يرى أن هناك نعمة أجل وأعظم من نعمة العافية يوم يضربه المرض ويسلبه السقام هذه العافية، بل إن بحسبه أن يرى امرءا معافى في بدنه ليقدر له من الشعور بالسعادة والإحساس باللذة ما لا يتعلق به وصف واصف، ولا يتصور مبلغه إلا هؤلاء الأصحاء!
لقد كنت في العافية فما قدرت لها قط قدرا إلا إذا ذكرت المرض وأوزاره، وإني لأكره بالطبع أن يتداخلني السقم، وينتابتي الوجع والألم؛ وأن يكفني هذا عن ولاية عملي، ويثقل
صفحة غير معروفة