فاجأتني بثورة من الضحك، عادت واحتضنتني وأكدت لي للمرة الألف أنها سوف لا ترفض أن أتزوج أيا كان، إذا كنت أحبه ويحبني، متزوجا أم غير متزوج مجنونا أم عاقل، المهم يستطيع أن ينجب أطفالا يعيشون معي في البيت هنا، ولتذهبا أنت وهو للجحيم. قلت لها: هل غيرت رأيك؟
قالت وفي وجهها ابتسامة رائقة: لا، لم أغير رأيي، أنا عن نفسي لا أتزوج رجلا متزوجا.
وضعنا الخطة، اتفقنا على أن نشرك فيها بعض الصحفيين المهتمين بالموضوع؛ لأنهم يمتلكون الخبرة في التحري، أيضا الشرعية والحيلة في تقديم الأسئلة والدخول إلى كل المؤسسات الحكومية والمدنية. طبعا ليس كذلك تماما، لكن لحد ما ... الأهم أن لهم أفضلية علينا في ذلك. البحث عن الصحفي المناسب كالبحث عن إبرة في كومة من القش. كنا نريده ذكيا، شجاعا ويؤمن بالقضية بصورة قريبة من وجهة نظرنا. حتى يكون هنالك توافق وتناسق في فريق العمل. أهم ما في الأمر ألا يكون مواليا للسلطة؛ لأن الموالاة تحتم عليه التوافق مع وجهة النظر السائدة، حتى ولو أنها جانبت الصواب. وفوق هذا وذاك نحن لا نستطيع أن نقدم له أجرا، مهما كان ضئيلا، فالعمل تطوعي وإنساني في المقام الأول. لم أقترح عليه أحمد الباشا، سيرفضه ظانا منه - وأنا أعرف ظنونه - أنني كنت في يوم ما مغرمة به أو أنه مغرم بي. كما أنه صدق إحدى كذباتي التي كان الهدف منها إثارة غيرته. بأن أحمد الباشا أكثر وسامة منه وأن كثيرا من البنيات يستلطفنه، قلتها بالطريقة التي تجعله يسمع كلمة كثيرا «كل» أو أنا واحدة منهن. أكدت له بأنني لا أهتم بذلك على الرغم من أنه كان يتودد إلي بين حين وآخر. كما أن الباشا بعد أن طرد من جريدته أصبح مخيفا ومتجنبا من قبل كثير من المؤسسات وكل الجرائد الوطنية وغير الوطنية بالطبع. فلعنة حرمان الصحيفة من الإعلانات لعنة تظل تطارد صاحبها في الحياة الدنيا حتى الممات، قد تلحق بنسله الميامين، إذا استطاع أن ينسل في ظل لعنته تلك. قال لي عبد الباقي بعد قليل من التفكير: أقترح صديقنا الصحفي أحمد الباشا، هو أكثر شخص مناسب لهذه المهمة.
المشكلة الوحيدة في أنه مراقب، تليفونه لا يعمل، ولا نعرف إليه سبيلا.
كان ينظر في عمق عيني، أو كنت أظن أنه كان يحملق في وجهي؛ ليعرف ردود أفعالي وتأثير اقتراحه المثير. اقترحت عليه حكمة رابح؛ هي ذات خلفية قانونية مثقفة وشديدة الجمال، وأعرف أنه يحب طريقتها في كتابة الشعر. تعمل بالمحاماة والصحافة في الوقت نفسه. اقترح هو صديقتنا دكتورة مريم الطبيبة البشرية ذات النشاط، والهمة والقلب الحنون. قد عملنا معا كثيرا، خضنا مغامرات شتى في سبيل المتشردين والأطفال، هي شخصية لا يختلف عليها اثنان. عليه أن يتصل بالباشا، علي أن أتصل بحكمة ومريم.
أمي تحرص بشدة على أن تكون علاقتها الخاصة في غاية السرية والكتمان، لا تريدني أن أشك لحظة في أن لها علاقة، قد أفسرها بأنها مشبوهة قد تقلل - حسب ظنها - من حسن صورتها عندي؛ حيث إنها تعمل طوال الوقت على أن تجعل من نفسها قديسة في نظري. من حقها ذلك، ولو أنني أرى ذلك تزييفا روحيا كبيرا، وأن عليها أن تنتبه لنداء جسدها بصورة أو بأخرى. فلقد كانت جميلة وفتية، أهدرت وقتها وروحها من أجل تربيتي بصورة لائقة، فكنت وما زلت مشروعها في الحياة، المشروع الذي كاد أن يثبت فشله، أو أنه فشل بالفعل، حسب رأيها عندما لا تكون في مزاج رائق. توفي والدي ذات صباح باكر. كنت حينها نائمة في غرفتي، أحتضن كما كنت أفعل طوال طفولتي دميتي الصغيرة التي أحضرها لي أبي من دولة أجنبية زارها، على ما أعتقد كانت فرنسا أو ألمانيا. استيقظت على صراخ النساء، جدتي، خالاتي، أمي ونساء الجيران. انتزعت نفسي من السرير، هرولت ناحية باب الحجرة، لكنها كانت مغلقة من الخارج. أخذت أصرخ وأضرب الباب بكفي الصغيرتين، أصرخ بكل ما لدي من صوت وأركل بكل قواي، إلى أن تعبت تماما، خمدت في شبه إغماء، لم يأت إلي أحد، اختفت الأصوات تدريجا، حلت محلها همهمة رجال، ليس صوت أبي من بينهم، كنت أميز صوته من بين كل الأصوات، وأستطيع أن أسمعه من مسافات طويلة. ثم جاءتني خالتي، حملتني من على الأرض، حيث تبولت دون إرادتي ... أخذتني على كتفها. كان وجهها مبللا بالدموع، وبصوتها حشرجة غير مستحبة. بدأت أصرخ من جديد مطالبة بأمي، إلى أن جاءت بعينين بنيتين غارقتين في الدموع؛ احتضنتني بقوة، قبلتني وطلبت مني أن أذهب مع «خالتو». أحسست بشيء غير عادي يحدث في بيتنا، لكن خالتي العجول هرولت بي إلى بيتها عابرة الشوارع الواسعة الساخنة وأنا على كتفها أصرخ وأرفس بقدمي. على بعد ميلين من بيتنا تركتني؛ لألعب مع بنتيها الشيطانتين صديقتي، أحبهما كثيرا، كنت أصغر منهما قليلا في العمر. حالما أنسيتاني كل شيء وأقامتا لي عرسا، زوجتاني من طفل من القصب صنعته الأخت الكبرى علياء، رقصت كعروس حقيقية، على إيقاع صينية الشاي، فأنا أحب الرقص، غنتا رقصتا، انضمت إلينا فتيات الجيران الأخريات؛ فقد كان عرسا بهيا وجميلا.
عندما عدت في اليوم الثالث لم أجد أبي في البيت إلى هذا الحين. كانت أمي تقول لي: إنه مسافر إلى مكان بعيد، ثم أخبرتني فجأة بأنه مات؛ أي ذهب إلى الجنة، كلنا سنلحق به آجلا أم عاجلا. سوف لا يأتي مرة أخرى للحياة الدنيا، هذا مصير البشر. ثم زرنا قبره مرارا وتكرارا لسنوات طويلة، صيفا وشتاء، في الأعياد وفي المناسبات العامة، كلما مرضت أو مرضت أمي، كلما بلغنا الصحة، كلما مات أحد أقاربنا، بل كلما تذكرته أمي. ثم فجأة توقفنا عن زيارة قبره، وأستطيع أن أؤرخ لذلك، منذ اليوم الذي التقينا فيه بما أسمته أمي صديقها الروائي وليد الجندي في المقابر. كان هو الآخر في زيارة لما أسماها المرحومة صديقتنا سيدة. لا أدري كيف تطورت العلاقة بينهما بعد ذلك بعيدا عن بصري وسمعي، بينما كنت أنا أكبر قليلا قليلا، تمر السنوات علي ... عليهما ... وعلى علاقتهما مع بعض. من جانبي كنت أحس بفقدان أبي، دائما ما أرغب في أن أتحدث إليه، كان يسافر كثيرا، إلا أنه عندما يكون بالمنزل فإنه يلعب معي، يحكي لي ويستمع إلى ثرثرتي. رغم صغري في ذلك الحين كنت أتعلم منه وأسأله عن أمور كثيرة لا أذكرها الآن، لكنها تجعله يضحك من صميم قلبه، ويحملني على كتفه، يجري بي في حوش البيت. أريد من يفعل بي ذلك الآن، قد يكون هذا مستحيلا لوزني الثقيل، لكن غير المستحيل أن أجد من يحكي لي، يستمع لحكاياتي ويضحك من قلبه لأجلي.
يقول عني أصحابي أنني مترددة وغالبا ما أغير رأيي، ليس لعدم ثقة في النفس، ولو أنه يبدو كذلك، لكني كنت في صميمي أحتاج لآخر يتخذ معي القرار. أقصد أنني أحتاج فعلا لأبي في هذا الشأن، قد يرى الناس ذلك غريبا بالنسبة لإنسانة في نهاية العقد الثالث من العمر ... تخرجت في الجامعة منذ أكثر من خمس سنوات وأحبت ما لا يقل عن خمسة رجال، وتعمل في مجال حماية الأطفال والمشردين بصورة يشهد عليها مديروها بأنها متميزة وجادة. كان عبد الباقي قد عرف في وقت مبكر هذه المعضلة، وأخذ يعلمني كيف أملأ فراغ الأب، لكن المشكلة الأساسية تقع في أنه ملأ هذا الفراغ بنفسه. كان يكبرني بعشرة أعوام؛ يعني أنه أصغر من أمي بثماني سنوات. كما قلت من قبل، أمي ليست طاعنة في السن، تكبرني بثمانية عشر عاما لا غير. أمي أيضا كانت تفتقد أبي، تفتقده بشدة وبصبر. إذا كانت صريحة معي كنت أمنت لها خصوصية عظيمة، بل لساعدتها في أن تتزوج أيضا. بإمكان أمي أن تتزوج، ماذا يمنع؟!
كان وليد الجندي شخصا غامضا، هو أيضا من نوعية الكتاب الذين يصبح كل نصيبهم من الإبداع كتابا واحدا لم يكتمل، أو بضع مقالات لم تنشر بعد، ثم يقضون بقية العمر في التضجر، لوم الدهر، صب اللعنة على الحكومات، ضيق ذات اليد وفشل المشروع الوطني السوداني. في الحقيقة لم ألتق به سوى مرات معدودات طوال سنوات علاقته مع أمي؛ لأن أمي تحرص ألا تكون لي معه أية علاقة قد تقود إلى فضح تفاصيلها هي الشخصية. أمي أيضا كانت واحدة من الفريق. اقترحت أنا للفريق أن ينضم إلينا وليد الجندي ... كانوا يعرفون أنه مقرب إلى أسرتنا الصغيرة، لكنهم لا يعرفون تفاصيل علاقتنا به. رفضت أمي الفكرة في بادئ الأمر بحجة أن الفريق يجب أن يكون مختصرا بقدر الإمكان حتى لا يفتضح أمره - كما أعلنت - وهو سبب غير وجيه. كانت تضمر سببين آخرين مقنعين لم تصرح بهما. لكن عينيها برقتا سعادة عندما أقنعتها حكمة رابح بضرورة أن ينضم إلينا الأستاذ وليد الجندي، حتما سيستفيد الفريق من حسه الروائي والنقدي، حيث يشاع أنه ضليع في النقد الأدبي أيضا.
الاجتماع الأول كان في بيتنا. أنا وحكمة رابح علينا أن نجمع المعلومات عن مادة الميثانول ... كل ما يخصها من تفاصيل، معلومات مكتبية من الإنترنت عن طريق الأخ «قوقل»، معلومات ميدانية عن أين وكيف يوجد هذا الميثانول في الخرطوم، ومدى سهولة أو صعوبة الحصول عليه. هذا قد يقود إلى مصدره، بالتالي يضعنا وجها لوجه أمام المتهم الأول أو الخيط الذي يقود إلى المتهم الأول. هذا إذا كان هنالك متهم في الأساس؛ لأن من نسميهم نحن بالجماعة أو الفرقة ونتهمهم بالتسبب في قتل المتشردين كانوا هم أيضا يتهمون جهات شريرة أخرى - نحن بعض هذه الجهات - ويعملون ليل نهار من أجل القبض عليها ووضعها في ميزان العدالة، وهذا يضع كل اتهاماتنا لهم ليست سوى أوهام ويدرجها تحت نظرية التآمر، ما لم تكن هنالك معلومات جيدة، دقيقة ومؤكدة، لا توجد حقيقة. الرأي الأرجح، أقصد الوسطي في الصحافة أن أحدهم سرق مادة الميثانول معتقدا أنها أثينول وباعها للمتشردين بحسن نية، وغرضه من وراء ذلك الربح الحلال ... لا أكثر.
صفحة غير معروفة