والمجتمع المدني في رأيه يزدهر بازدهار الفضائل المدنية: التعاون، حب الإنسان، الروح الجماعية، النشاط الطوعي، المساواة، العدالة، التعالي على الانحيازات. وتمثل الفضائل المدنية خير دعامة ضد الحكم الشمولي وضد الإفراط والمغالاة. ويجسد المجتمع المدني الساحة الأخلاقية بين الحاكم والمحكوم، ومفهوم المجتمع المدني هو الساحة التي تضم مؤسسات طوعية حرة تتوسط بين الفرد والدولة؛ حيث المواطنون الأفراد يعملون في آن واحد على نحو فردي وجماعي مشترك، ومن ثم فإن فعالية الإنسان هي أكبر الفضائل. وصاغ توماس بين رؤاه عن المجتمع المدني في صورة جمهورية فاضلة، هي موطن الحرية المتحررة من الحكم القسري التعسفي، والتي تزدهر فقط حال توفر روابط حرة دينامية بعيدة عن السيطرة المنفردة للمجتمع السياسي (الحكومة).
مفهوم المجتمع المدني إذن هو صياغة لتنظيم صورة الواقع والموقع في سلم تراتبي تفضيلي قياسا إلى السابق في أوروبا، وقياسا إلى حاضر المجتمعات غير الأوروبية، وظهرت فلسفات التنوير، وسرديات العقد الاجتماعي لتفسر مسار تطور المجتمعات تاريخيا من الوضع الطبيعي، وضع الفطرة، حيث البشر أفراد أحرار سواسية تعاقدوا - حسب زعمها - طوعيا للاجتماع، ثم بفعل القهر والقسر تحولت إلى مجتمعات عرقية وعصبية دينية وأرستقراطية طبقية.
وترسم فلسفات التنوير السياسية الطريق للخلاص وبناء المجتمع المدني المتحرر من هذه الانحيازات، والمتلاحم في وحدة وطنية حضارية، والعودة إلى ما سمته «الطبيعة البشرية في جوهرها»، في ظل سلطة ديمقراطية ليبرالية وليدة اقتراع حر، ويعني هذا أن المجتمع المدني حسب التعريف هو المجتمع الديمقراطي الليبرالي الحداثي، والحضاري الغربي، إنه النموذج الكلي الذي يتعين بلوغ مستواه لمن شاء أن يوصف بأنه مدني (حضاري) ولكن ليس الأمر ميسورا للجميع.
وشرعية السلطة أو الدولة في المجتمع المدني الديمقراطي الليبرالي رهن مواطنين أحرار متساوين، يختارون بملء إرادتهم الحرة ومسئوليتهم الواعية، النظام الحاكم متعالين - بحكم تثقيفهم وتعليمهم مدنيا - على الانحيازات والحزازات الطبقية أو الدينية أو العرقية ... إلخ، إذ المجتمع غير المدني يحكم باسم الدين أو العرق أو الطبقة أو العائلة، إنه مجتمع غير ليبرالي ولا ديمقراطي ينظم المؤسسات التعليمية والسياسية والإعلامية وغيرها من مؤسسات اجتماعية لدعم صاحب السلطة؛ إذ له المشيئة، ولكن المجتمع المدني ديمقراطي ليبرالي في التعليم والثقافة والسياسة، وفي شرعية الحكم وفي مساحة حقوق الإنسان ومشروعيته باعتبار أن الناس أحرار متساوون، والمجتمع المدني ليس ضد الدين، ولكن ضد تسلط رجال الدين باسم الدين، تحقيقا لمآرب جزئية، فهم بشر تربطهم مصالحهم، وتحكمهم الانحيازات، فضلا عن أن قضايا المجتمع بحكم التطور والتعقد تتجاوز كثيرا حدود قدراتهم المعرفية المتخصصة أو المحدودة بعد أن تشعبت تخصصات الحياة، والثقافة المدنية هي أساس التعليم المدني الذي يضفي نظرة نسبية لا مطلقة على المنظومات التراتبية الناجمة عن ثقافات مجتمعات محلية طائفية.
وتسود المجتمع المدني ثقافة خالقة للمواطن المدني وللمواطنة المدنية، هي ثقافة ليبرالية ديمقراطية تلزم الدولة بمعاملة جميع المواطنين باعتبارهم أفرادا أحرارا متساوين؛ حيث إن أبناء المجتمع مواطنون، لا رعايا لمؤسسة دينية أو لأمير أو لرئيس، وحيث السلطة إدارة بالوكالة عمن اختاروهم بإرادتهم الحرة في اقتراع سري من بين مواطنين أحرار متساوين لهم حق الترشح لتولي السلطة، وحيث شرعية السلطة رهن هذه الإرادة الحرة، إذ المواطنون الأحرار هم مصدر شرعية السلطات.
ومواطن المجتمع المدني تصوغه - من خلال التربية والتعليم والإعلام والتنشئة الاجتماعية - ثقافة سياسية تدعم الفضائل المدنية من مثل التسامح إزاء اختلاف الرأي أو العقيدة أو العرق، ومن مثل الاستعداد لحسم المنازعات عقلانيا، أي تحكيم العقل المستقل ذاتيا ومصالح المجتمع الأكبر، والإيمان بمسئولية الآخرين الأحرار عن أفعالهم وحقهم، ورفض كامل لأي تراتبية أو امتيازات أو انحيازات لمنصب أو عقيدة ... إلخ.
وتجسد ثقافة المجتمع المدني وآليات التثقيف معتقد التنوير بشأن العقل والمعرفة الذي يقرر - ويؤكد - حرية تكوين المؤسسات الدينية المستقلة ذاتيا، علمية وسياسية وطوعية ... إلخ، لتكون روافد تستجمع زخم الجهد الاجتماعي، ولتكون تجسيدا للمثل العليا المدنية، ووعيا جمعيا ديمقراطيا موازيا للمجتمع السياسي (السلطة) وحائلا دون انفراده بالأمر، وهنا تكون الديمقراطية ممارسة وتجليا للحريات والاستقلال.
وتبني الثقافة المدنية منظومة ذهنية جديدة عن المواطنة والمثل العليا للمواطنة، ويتجلى هذا كله في السلوك الفردي والعام والسياسي للدولة، وفي احترام معايير المواطنة والأصالة والحرية، وإن إحدى مهام الدولة في المجتمع المدني توفير موارد لحفز المواطنين على استحداث وتطوير قدرات مناسبة لمواطنة ثقافية كاملة، أي الانتماء الأصيل؛ ذلك لأن المواطنين لا يتطلعون إلى مواطنة لا يفهمونها، أو لا تتوفر معايير مصداقيتها وفرصها، أو مستمدة من مثل عليا وأطر معرفية تقليدية فقدت موضوعيتها واغتربت عن الواقع الحياتي، وثمة تغذية متبادلة داعمة بين معايير الثقافة المدنية من جهة، وبين التعليم والإعلام والتنشئة والممارسات الحياتية على صعيد الأفراد وسياسة الدولة من ناحية أخرى، وإذا حدث وفقدت الأفكار المحورية للثقافة المدنية مصداقيتها فإنها سرعان ما تفقد قدرتها على خلق عادات المواطنة المدنية مما يتهدد المجتمع بالتفكك.
والمثل العليا للمواطنة الثقافية في المجتمع المدني في نشأته هي: (1)
الأصالة، أي أن يعبر المرء عن ذاته، بالأصالة عن نفسه، ويكون هو ذاته عملا ورأيا، وصاحب عقل مستقل في حكمه على قضايا الحق والخير والسياسة، وهو ما لا يتحقق إلا في مناخ من الحرية. (2)
صفحة غير معروفة