هناك ترى عين البصيرة ما ترى
من الفضل والأفضال والخير والمجد
فيا رب هيئ لي بفضلك عودة
ومن بها في غير بلوى ولا جهد
فالمقريزي يشير في هذه القصيدة إلى معالم المدينة وضواحيها الهامة التي زارها، وهي البساتين ومرج البحرين والبرزخ وشطا، كما أنه نعم أثناء مقامه بها بجوها الصحو ورياحها «التي تطرد الهم والأسى.» وسمائها التي كالبلور، وشاطئها الذي «يعيد شباب الشيب في عيشه الرغد» وأعجب ببشنينها الريان، وهز عواطفه أصوات النواعير «التي تجدد حزن الواله المدنف الفرد» ثم أحس أخيرا أن نفسه لم تشبع من هذا الجمال؛ فتمنى على الله - في خاتمة قصيدته - أن يهيئ له عودة إليها، وإنما «في غير بلوى ولا جهد». (5-9) دمياط منفى السلاطين والأمراء
وقد اتخذت دمياط في القرن التاسع صفة أخرى غير ما عرفنا؛ فقد أصبحت منفى للأمراء المغضوب عليهم، وسلاطين المماليك وأبناء السلاطين المخلوعين عن عروشهم، يبعدون إليها ليسجنوا في أبراجها، أو ليعيشوا فيها أحرارا أو مراقبين؛ ففي منتصف القرن التاسع نفي إلى دمياط خليل بن الملك الناصر فرج بن برقوق، فقضى بها المدة الأخيرة من حياته إلى أن وافته منيته بها في سنة 858، فدفن بالقرب من قبر الشيخ فاتح الأسمر لمدة ثمانية أيام إلى أن سمح السلطان بنقل جثته، فنقلت إلى القاهرة، ودفنت بتربة جده الظاهر برقوق.
وفي سنة 873 (1468-1469) استطاع السلطان الملك الأشرف قايتباي أن يرتقي عرش مصر بعد عزل السلطان الملك الظاهر تمربغا، وأبعد السلطان المعزول إلى دمياط معززا مكرما، سافر إليها في حراقة بطريق النيل، فلما وصل إليها «سكن في أحسن دورها، وكان يركب إلى صلاة الجمعة.» وفي نهاية هذا العام فر تمربغا من دمياط إلى الطينة ثم إلى غزة، فأرسل قايتباي الجند خلفه، فلحقوا به في غزة، وقبضوا عليه، وعادوا به إلى الإسكندرية، فسمح له السلطان بالمقام فيها بعد أن اعتذر عن فعلته. (5-10) الملك المنصور عثمان بن جقمق يقيم في دمياط بعد عزله
وكان قد نفي إلى دمياط أيضا - قبل تمربغا - الملك المنصور عثمان بن الظاهر جقمق، فقد ولي السلطنة بعد وفاة أبيه جقمق، غير أنه لم يلبث بها إلا أياما، ثم وثب به الأتابك إينال وخلفه على العرش، ولقب بالملك الأشرف، ونفي المنصور عثمان إلى الإسكندرية أولا، ثم نقل إلى دمياط فقضى بها سنوات طويلة، ولم يحاول الفرار كصاحبه الظاهر تمربغا، وإنما اتصل بالعلماء وقضى بقية حياته يشتغل بالعلم، وحرص «على الانعزال والمطالعة والتلاوة والصيام، وصرف أوقاته في الطاعات، وتحريه في نقل العلم، وإعراضه عن التشاغل بأنواع الفروسية ومتعلقاتها مع تقدمه فيها.»
وقد عرف له سلاطين المماليك قدره، فبالغوا في إكرامه، وتركوا له الحرية الكاملة للانتقال في الثغر ومنه؛ فقد سمح له قايتباي بزيارة القاهرة في صفر سنة 874 (أغسطس 1469)، وكانت قدمته هذه ليسأل السلطان أن يسمح له بالحج، فأذن له، وخرج عثمان فحج «في أبهة تامة» ثم عاد فأقام بدمياط كما كان.
وفي ذي الحجة سنة 880 احتفل المنصور عثمان في دمياط بختان أولاده احتفالا عظيما، فبعث إليه قايتباي بألفي دينار «بسبب احتياج المهم، وتوجه إليه ابن رحاب المغني، ومشى في الزفة، وكان له مهم حافل.»
صفحة غير معروفة