... ثم يقال لهم: ما وجه الحكمة من الله في ذمه من ذم، وعذابه من عذب إذ ليس له فعل؟ وهل يجوز تعذيب النبيين والمرسلين وغيرهم من المؤمنين على غير فعل فعلوه، ويؤلمهم بالنار كما آلم من ذكرنا من أهلها على غير فعل فعلوه؟ وما وجه حكمه على القاتل بقتله، والسارق بقطع يده، والزاني بجلده ورجمه، إذ ليس لواحد منهم جرم فيما نسب إليه؟ وهل يجوز أن يحكم على هؤلاء بأحكامه للمؤمنين، ويحكم للمؤمنين الصادقين عليه في صفته بمثل أحكامه على الكافرين الكاذبين عليه من أهل عداوته؟ إذ ليس لواحد منهم فعل على الحقيقة، ويقال لهم: أخبرونا عن المخالف لكم في المذهب من أهل القدر،وغيرهم، هل تصفونه بالكذب على الله والخروج من دينه؟ فإن زعمتم ذلك أكذبتم أنفسكم بقولكم: إنه ليس أحد بكاذب على الله ولا واصف له بما لا يجوز من ذلك؛ لأن الله هو الكاذب على نفسه في قولكم، والواصف له بما يتعالى عنه من اتخاذ الصاحبة والولد، وغير ذلك مما قاله فيه أصناف المشركين، فهو القائل لجميع ذلك في الحقيقة في نفسه، لا أن أحدا منهم قائل ذلك ولا فاعل له، ويقال لهم: أكان جائزا على الله تعالى في صفته وعدله وحكمته أن ينهي عن القبيح عما هو به من القبح، ويأمره بأن يكون حسنا؟ وينهي القصير عن قصره، ويأمره بأن يكون طويلا؟ والأعمى أن يكون بصيرا؟ وينهي البصير عن أن يكون بصيرا؟ فإذا أجازوا الأمر بذلك، وأجازوا المحمدة فيه والمذمة عليه، أو يأمره أن يكون طويلا، وأوجبوا في ذلك الثواب والعقاب، قيل: إذا جاز هذا فأنتم لا تدرون لعله يجوز أن يتعبد الميت في حالة موته بالحياة، أو الحي بالموت، ثم يعاقب الميت على أن لا يكون حيا، والحي على أن يكون ميتا، فإن تجاسروا على هذا قيل: أفجائز أن يأمر بشيء ويذكر أنه طاعة، وينهي عن شيء ويذكر أنه معصية، ثم يعاقب على طاعته ويثيب على معصيته؟ فإن زعموا أن ذلك جائز، قيل: فما وجه الأمر فيه والنهي؟ أم كيف يوصف هذا الفعل بأنه طاعة إذا جعل عليها عقابا؟ أم كيف كانت المعصية معصية إذ جعل عليها ثوابا؟ فإن قالوا: لا يجوز أن يعاقب على ما أمر به، ولا أن يثيب على ما نهى عنه، قيل: ولم وكلا الأمرين فعله، والعاصي المعاقب المذموم، والمطيع المثاب المحمود لا فعل لهما في الحقيقة يحمدان عليه أو يذمان؟ وإنما ذلك كله لله ومنه عز وجل عما يقول المبطلون، مع ما وجدنا من إبطال أمر الله ونهيه، وسقوط الحجة على أهل الزمانات وبسط المعذرة لهم، فقال تعالى: (ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج، ولا على المريض حرج) (¬1)
¬__________
(¬1) سورة الفتح آية رقم 17..
صفحة ٨٦