هَوَاك، ويُمِرّ عَلَيْك مستعذَبَ نَواك، من تصوّر التَّعَب بشدّ الرِّحال، ومئونة التِّرْحال، ولفْح السمُوم، وَعقد الطَّرْف لَيْلًا بسُموت النُّجُوم، وتأمُّلِ السَّراب، شَوْقا إِلَى بَرْد الشَّرَاب، والتمتع بأباطيل الخيال، بَدَلا من لذيذ محصول الوِصال، وَسَائِر مَا يَلْحَقُ جُوَّابَ المَتالِف، من أَنْوَاع التكالِف، وَرُبمَا اقْترن بذلك مَا أحمدُ الله على كفايتك إِيَّاه، من تَلف المُهْجة الَّتِي لَا يَعْدِلها ثمن، وعابرُ الْمَفَازَة بذلك قَمَن، فقد قيل: إِن الْمُسَافِر ومَتاعَه لعَلى قَلَتٍ إلاّ مَا وَقى الله، وَقد قيل: إِن تَعب السّفر، لَا يَفِي بِهِ شَيْء من الظَّفَر، فيالها نِعمةً عميمَةً أوردَك صَفْوَتها، وطُعْمةً جَسيمة مَلَّكك عفوتها، هَكَذَا تنمى الجدود وتسفر عَن مطالعها السُّعود، عِشْ بجَدٍّ صاعد، فربَّ ساعٍ لقاعد، وَللَّه درّ أبي الطَّيِّب رَبِّ الْأَمْثَال السَّيَّارَة، والأقوال المُستْعارة، قَائِلا:
ولَيْسَ الَّذِي يَتَّبَّع الوَبْلَ رَائِدًا ... كمَنْ جاءَهُ فِي دارِهِ رَائدُ الوَبْلِ
وشَرْح مَا اجملتُ لَك من ذَلِك: أَن بارئنا جلّ وعزّ، لمّا أَرَادَ الْإِحْسَان إِلَيْك، والامتنان بفضله عَلَيْك، ألهمه، فَأَنْشَأَ لَهُ همّة لَيست ببدْع من هممه، وَحِكْمَة لَيست ببِكْرٍ من حِكمه، فَإِنَّهُ - وفَّقه الله - مَناطُ كلّ عَجِيبَة، ورباط كلّ فَائِدَة غَرِيبَة، وَمَا أولاه أَن يُنشَد فِي ذاتِه، مَا قَالَه أَبُو الطَّيَّب ذَاكِرًا لصفاته، وَهُوَ:
إليَّ لَعمرِي قَصْدُ كُلِّ غَرِيبَةٍ ... كَأَنِّي عجيبٌ فِي عُيُونِ العَجائبِ
وَذَلِكَ انه - أدام الله مدَّته، وَحفظ على مُلكه طُلاوته وجدتّه - لما جمع الْعُلُوم
1 / 31