فسألته: «ألست ترى أننا نحن النورديين من النوع الذي يزدهر بعد وقت طويل؟ وإذا لم تعجبك كلمة النورديين (وقد فاحت رائحتها على أيدي بعض الناس ) فلنستبدل بها الأوروبيين الشماليين. ألسنا ننضج أبطأ مما ينضج غيرنا؟ في حداثتنا على الأقل نرى الأحداث اليهود قادرين على التفوق علينا تفوقا ساحقا.»
ووافقاني على هذا الرأي، وأخذنا نبحث في النضج المبكر برهة من الوقت.
قال هوايتهد: «ولكنك حينما تلتقي بهم وهم طلاب، يشق عليك أن تعرف أي العوائق تفرضها عليهم كي تسوي بين اتجاه أولئك الذين يبكرون في نضجهم وبين العقول التي ربما كانت أشد عمقا، ولكنها تنضج أشد منها بطئا. إنك بحاجة إلى أن تعرف الطالب أولا بنفسك، ثم أنت بحاجة بعد ذلك إلى أن تعرف ما يرى الآخرون في قدراته، وأنت بعدئذ بحاجة إلى أن تعرف أولئك الآخرين كي تدرك لماذا يرون فيك رأيا معينا؟»
فسألته: «ألا ترى أن البحث العلمي في ألمانيا برغم طول باعه في الدرس وبرغم عمقه، متخلفا بعض الشيء في البداهة ذات الخيال البعيد؟»
قال: «يستطيع البحث العلمي (الذي يستند إلى دراسة القديم) أن يوجه إلى نفسه ثلاثة أسئلة؛ أولا: «ماذا كان يعني بالضبط مؤلف من المؤلفين القدامى عندما كتب بضعة ألفاظ بعينها، وماذا بالضبط كانت تعني تلك الكلمات لمعاصريه؟» (وذلك ما كان البحث العلمي يقوم به على نطاق واسع خلال القرن التاسع عشر.) ثم يسأل نفسه بعد ذلك: «ما هي وأين توجد تلك الومضات التي تدل على البداهة في عمل عبقري من العباقرة يرتفع به عن زمانه إلى جميع الأزمان، تلك الومضات التي تكون دائما شاذة في زمانها، بمعنى أنها لا ترتبط بزمان من الأزمنة؟» (وهذا ميدان لا يجول فيه الدارسون الباحثون كثيرا، وهو مجال قلما يجد البحث العلمي نفسه فيه مطمئنا.) وأخيرا هذا السؤال: «كيف نستطيع أن نخلد وأن ننشر هذه الومضات العبقرية النادرة التي ارتفعت فيها الإنسانية عن نفسها، كما لم تفعل في أي مجال آخر؟»» - «إن الدراسة الإنجليزية الكلاسيكية تفضل في هذا دراستنا. في العقد الأول من القرن الحالي كان عندنا هنا في هارفارد جماعة من خيار الأساتذة وبخاصة في قسم الدراسات اليونانية، وكان هربرت ويرسمث حينئذ حجة في أيسكلس، وقد ألحقوني بهذا القسم أربع سنوات، وسررت بهذا اللحاق، فدرست الشعر والتاريخ والفلسفة والدراما، ولكني لم أبدأ في فهم ما تعنيه الأفكار الهلينية العظيمة إلا بعد اثني عشر عاما، وكان من وجهوني هذه الوجهة هم مري ولفنجستون وزيمرن وكورنفورد وكاسون وزمرتهم، وقد ترد علي بقولك إني بذلك قد أوضحت قضيتي وإني كنت بحاجة إلى اثني عشر عاما أو أربعة عشر عاما أخرى؛ لأني من الذين لا ينضجون إلا بعد وقت طويل جدا. بيد أن نفس الشيء قد حدث لغيري ممن أعرف.
وأخذوا ينقبون عن نماذج للنضج المبكر بين الأوروبيين الشماليين؛ فذكروا كيتس وشلي بطبيعة الحال، ثم موزار ومندلسن، بيد أن هوايتهد كان يعتقد أنه بالرغم من كونهم نماذج شائقة، إلا أنه لا يصح أن نعدهم ممثلين لغيرهم، ويرجع ذلك إلى حد ما إلى أن من خصائص الموسيقى والشعر العجيبة أنهما يبلغان حد الإجادة على أيدي الشباب.»
ثم باغتني بحدة سائلا: «أين ملحنوكم الأمريكان، برغم حبكم العنيف للموسيقى؟»
وكانت العبارة التي صيغ بها السؤال تدعو إلى الحيرة؛ لأنه لو كان لدينا ملحنون من مستوى الألمان العظام، غير منازعين، ما وجه إلي السؤال. وكان ما جادت به قريحتي للرد عليه هو أن هذه الفن - فن تلحين السمفونيات، الذي تطور في القارة الأوروبية في القرنين أو الثلاثة قرون الماضية - دخل أمريكا بعد ما بلغ قمة التعقيد؛ ومن ثم فإن ملحنينا بدلا من أن يبدءوا من حيث بدأ الأوروبيون - في بساطة - بدءوا بالتعقيد، وحاولوا أن يزيدوه تعقيدا، وربما كان من سبق الأوان أن نحكم أكان ذلك نجاحا أو فشلا.
المحاورة الثامنة
8 من مايو 1936م
صفحة غير معروفة