وتحدثنا كذلك عن الفجوة بين الشباب والشيوخ منذ الحرب، وقيل إنها أقل عمقا بكثير في إنجلترا، وسألته عن رأيه فيما حدث هنا.
فقال : «إن الجيل الذي يبلغ أبناؤه اليوم الخمسين أو ما يدانيها، كانت نشأته - فيما يبدو لي - شديدة الاضطراب، وإني حينما أخاطب جمعا من الشباب دون سن الثلاثين ينتابني شعور بالاحترام القلبي لهم.»
وواصل حديثه قائلا: «وأعتقد أن ذلك راجع إلى أن آباءهم قد فقدوا عقائدهم، ولكنهم ظلوا مصرين على صيغ السلوك البائدة كي يجعلوا أبناءهم «طيبين»، في حين أنهم هم أنفسهم لم يعودوا يثقون في هذه الصيغ البائدة. وقد كشف الأبناء حقيقة الأمر في النهاية، فخدعوا آباءهم بدورهم، فكانت النتيجة خداعا في خداع؛ كانوا يعرفون أن دينهم القديم كان فارغا، ولكنهم لم يخلصوا لأنفسهم ولا لأبنائهم في هذا، وكان أبناؤهم في تلك السنين فيما بين الثامنة عشرة والرابعة والعشرين، في السن التي يمارس فيها المرء لأول مرة الضرورات الحيوية، عاطفية وبدنية، فلبثوا في جهل تام بالنتائج الاجتماعية التي تترتب على ضروب معينة من السلوك.»
كان يقول ذلك في طريق عودتنا إلى المكتبة بعد تناول العشاء. ولما استقرت رفقتنا، ألقى أحدهم بسؤال ظل معلقا أمدا طويلا: «لماذا لبث العلم في تقدم بخطوات واسعة منذ عام 1900م
قال: «من الأسباب التقدم العظيم في علوم الرياضة فيما بين عام 1700م وعام 1900م، فتوافرت به لرجال العلم أداة دقيقة مضبوطة يستكشفون بها عوالمهم الجديدة.» - «ولكن لماذا كان هذا التقدم في القرنين السالفين، في حين أن الرياضة قد تطورت تطورا كبيرا على أيدي اليونان منذ ستة وعشرين قرنا على الأقل؟»
قال: «كانت مستكشفات الإنسان في الرياضة قبل ذلك تأتي عن طريق ملاحظة بيئته الطبيعية، فتتميز بذلك عن التعليل المجرد وتناقضه. لاحظ الإنسان فوق سهول كلديا النجوم تدور ثم تدور، فاستنبط فكرة الدائرة، وأخيرا وصل إلى العجلة؛ ومن ذلك ترى أن العجلة ليست اختراعا واضحا كما يظن، وحتى القرن الخامس عشر حينما وجد الأوروبيون أمريكا، كانت العجلة لا تزال مجهولة في هذا النصف من الكرة الأرضية. والهندسة - قياس الأرض - قد تطورت على أيدي المصريين بسبب حاجتهم إلى إعادة رسم الحدود التي يمحوها فيضان النيل السنوي.»
ثم قال: «ولكن حدثت فجوة طويلة فيما بين هذه المستكشفات القديمة التي استنبطت من الخبرة المادية، والمستكشفات التي جاءت فيما بعد، والتي لم يمكن بلوغها إلا بالتعليل المجرد. كانت طريقة العدد الرومانية ثقيلة غير متقنة، ولم تصل إلى أوروبا طريقة العدد العربية - وهي أسهل في التناول - حتى القرن الثاني عشر، ولما وصلت إلى أوروبا جعلت صورها المبسطة - التي يسهل على العين استيعابها - الرياضة في متناول عقول أكثر عددا وأشد تنوعا، ولما أشرف القرن السابع عشر على نهايته، بلغ هذا التقدم - الذي بدأ في النهضة الإيطالية - قمته عند نيوتن وليبنز، فتطورت اللوغارتمات وحساب المثلثات والجبر، وانتهى العهد قطعا بإتقان حساب التفاضل والتكامل، إن لم يكن باختراعها اختراعا؛ فأصبح الطريق الآن مفتوحا، منذ عام 1700م إلى ما بعده، لتلك الجولة في الرياضة التطبيقية التي أمدت العلماء بوسيلة مركبة حساسة لخلق صيغ فكرية يفسرون بها مدركاتهم للظواهر الحسية.»
فعلقت بقولي: «ولكن مع تقديرنا للتقلبات التاريخية، وانهيار الإمبراطورية الرومانية، والعصور المظلمة، وما إليها، لا يزال من العجب أن تحدث تلك النكسة الطويلة بعد تلك البداية المبشرة في العالم القديم.»
فقال: «ما أكثر البدايات المبشرة، ثم لا ينفذ منها إلا القليل، وإن تتبع البدايات التي شرعها العلماء بكل ما تفرع منها لتستغرق مائتي عام، ويمكن أن يتم ذلك على أيدي رجال أقرب في الحقيقة إلى رجال الصف الثاني، رجال ذوي عقول ذكية يستطيعون متابعة طرق معينة داخل دائرة محدودة، ولكنها ليست عقولا مبتكرة، وقد تنسم أعمالهم بطابع الابتكار، ولكنها محدودة جدا؛ فهي قد لا تمثل جزءا من ألف من التجارب. لقد بلغ العلم حدا يستطيع معه أن ينقل هذه السهولة في البحث، ولكنه بحث ذو قيمة ثانوية، ليس بحاجة إلى رجل مثل شكسبير ليقوم به؟» - «هل تريد بذلك أن تقول إن مبدعي العلوم الحقيقيين في ندرة شكسبير؟» - «إنما أردت أن أقول إن كثيرا من الناس، ومن بينهم المبرزون منهم، ممن يعدون من العلماء، لا يعدون في الواقع أن يكونوا مجرد تقنيين (أي ماهرين في الصناعة)، إننا لا نظفر بعالم حقا إلا مرة في كل جيل طويل.» - «وكيف يمكن أن ترتفع الخبرة إلى مستوى الوعي وتنتقل من اللاوعي إلى صيغة فنية؟» - «أنت تتكلم كلاما ممعنا في التعقل. إنها في أول الأمر خبرة فنية، يشتد الإحساس بها - خبرة عاطفية مشوبة بتصورات ذهنية - ثم تتطلب بعد ذلك صياغة فنية معينة.
ومشكلة المبدعين اليوم هو محاولتهم استبدال الفكرة العقلية بالخبرة الفنية. إنهم يفكرون على هذا النحو: «أليس مما يثير الحس أن تعالج هذا الموضوع بهذه الطريقة، وهي طريقة لم يحاولها أحد من قبل؟» بيد أن الجدة عديمة الأهمية، وكل ما له أهمية هو عمق الخبرة التي يصدر عنها الفن وصلاحيتها؛ فإن صدرت عن مجرد استدلال منطقي بارع واع كان مقضيا عليها بالفشل، إنك حينئذ تعالج تصورات ثانوية وخبرة ضحلة نسبيا، إنها لا تحمل طابع الحق العميق.» - «كنت منذ برهة تتحدث عن غربنا الأوسط، وتقول شيئا عن ...»
صفحة غير معروفة