وسألته: «إذا أخذنا في اعتبارنا كل الشروح التاريخية المألوفة، فبماذا نفسر تسلط هذا الفكر العبري علينا نحن الأوروبيين الشماليين؛ لأن هذه هي حالتنا؟»
قال: «الأمر عجيب، وأعتقد أنه يجب أن نذكر أنها نظرة إلى الحياة نفذت عن طريق الرقيق والعمال المأجورين، وهي نظرتهم التي ترى أن المرء يمكن أن يعيش حياة طبيعية حتى لو كان دون مرتبة الكلاب، وقد لونت هذه النظرة بطبيعة الحال كل ما تلا ذلك من التاريخ الأوروبي، وهي نظرة أقرب إلى بولس منها إلى المسيح وليس هناك ما يدل على أن بولس قد رأى المسيح قط، ويبدو أنه كان يعطف بعض الشيء على بيئته ...»
وقاطعته مسز هوايتهد بقولها: «نعم، كأنه أستاذ في أكسفورد.» - «أجل، وإن المرء ليحسب أن بولس قد توجه إلى الرسل وقال لهم: «تعالوا حدثوني عن كل ما تذكرون عنه، وكيف كانت سيرته؟» ولكنه لم يفعل ذلك، بل قال: «اجلسوا أمامي وسأحدثكم عن معنى كل ذلك.» يبدو أن المسيح كان أحد أولئك الناس الذين يكتسحون غيرهم، فتنسب إليه أمور طيبة، فلما أخذت تلك الطبقات المهضومة تضع برنامجا للحياة يجعل العيش محتملا لهم ، تجمعت حول شخصية المسيح، ومن عجب أن العنصر الهليني الذي تسرب إلى المسيحية كان علاجا لنفس المشكلة من الطرف الآخر المناقض؛ أي أن المفكرين الإغريق رأوا أن [القبضة الحديدية] أمر وضيع، أو «بربري» كما كانوا يقولون. وباعتبارهم من الأرستقراط، رأوا أن الشفقة وحسن المعاملة هما زينة الحياة الدنيا، وائتلف هذان العنصران، ولكن يجب أن نذكر أن المسيحية أتت إلى أوروبا عن طريق «الطبقة الدنيا من الكهان!».»
وسألته: «ألا يدل اتجاه اليهود البغيض على حالة عقلية لم ترتفع إلى مستوى هذا السمو؟» - «بالتأكيد، وقد أصبت في تعريفك للبروتستانتية في أمريكا.» - «قلت إنها لا تستند إلى تقاليد قديمة تخفف من وطأتها.» - «هذا هو الفارق بينها هنا وفي أوروبا. في إنجلترا - وأعتقد أن ذلك كان بعد تدوين «مسرحية العاصفة»؛ أي بعد عام 1610م فيما أظن - كان الشعب الحي الحساس، من أصحاب الذوق الفني، لا يستمد راحته النفسية من الإبداع الفني، وإنما يستمدها من الخبرة الدينية، لخمسين عاما بعد ذلك على الأقل، وتلاحظ انحطاطا ظاهرا في الفن، والعمارة، والشعر (أما الفردوس المفقود لملتن فهي استثناء لا يقاس عليه) حتى بعد حكم الملكة آن. أما الأدب فجيد، بل عمل عبقري، ولكنه لم يبلغ جودته المعهودة، وفي فن العمارة رشاقة ولكن تنقصه القوة، وأعتقد أن الخبرة الدينية ينقصها شيء يستمد من التعبير الفني، إنها تهز المشاعر ولا تهدئها، وربما كانت تفتقر إلى التدريب الذهني الذي كان يكفله التعبير الفني. عندما يراقب الناس غروبا رائعا - مثلا - تثور مشاعرهم، ولكنهم كذلك يهدءون، وإذا أضفت إلى ذلك عنصر النظام الذي يدخله الفنان فيما يبدع، والذي ينبغي كذلك أن يحيط به من يستمع بالفن، إذا أضفت ذلك وجدت أن شيئا من المجهود العقلي يطلب بالتعاون مع الفنان كي يحدث الأثر، وقد عرفت الكنيسة الكاثوليكية ذلك، واستطاعت أن تدير أمرها بطريقة أفضل. إن كرسي الاعتراف يهز المشاعر التي يثيرها في الإنسان تقصيره في بلوغه أعلى مستوياته، ثم يهدئها بصرف الناس مطمئنين مرتاحين، ولا أقول إنها تتعرض لسوء الاستعمال، ولكن وازن بينها وبين مذهب «كالفن» الذي لا يطمئن فيه الرجل التائب إلى أنه أصبح واحدا من المقربين إلى الله أو أنه حكم عليه باللعنة الأبدية، وليس هناك ما يستطيع أن يفعله بهذا الشأن، بل إن الأعمال الطيبة نفسها لن تنجيه، فهو «خرقة قذرة». إن العقيدة هي أن الله عالم بكل شيء، حكيم، قادر على كل شيء خلق هذه الدنيا كما أرادها تماما، وحتى ما فيها من شر قد سبق تقديره، وبالرغم من أنهم يلقون بضع عبارات يخففون بها من قسوتها، إلا أن ذلك لا ينقذهم حقيقة من الموقف الصارم الذي زجوا بأنفسهم فيه.» - «ما الفرق - فيما تظن - بين الخبرة الدينية والخبرة الفنية الذي يجعل الثانية في كثير من الأحيان على ما يبدو؛ أعني استجابتنا لصورة من صور الفن أو لشعور من المشاعر الفنية، أصح كثيرا من الخبرة الأولى (بما فيها أيضا التربية العقلية)؟» - «أقول إن الفرق هو هذا. الخبرة الفنية تهدئ كما تثير، والخبرة الدينية تميل إلى أن تترك المرء معلقا وسط الفضاء، تثور العواطف ولا تشبع.» - «إن الوقار غير الطبيعي الذي يتصف به الكثيرون من محترفي الدين هو عندي نقطة ضعف فيهم.»
قال: «كنت ألاحظ دائما أن الأشخاص المتدينين حقا ومن الأعماق مغرمون جدا بالفكاهة، وإني لأشك فيمن ليس لديهم فكاهة. إن جهد الوقار لا يحتمل لأنه غير طبيعي. ولعلك تذكر أن الأثينيين كانوا دائما يقدمون بعد مآسيهم مهرجا على المسرح.» - «نعم، وكثيرا ما كان المهرج يسخر من موضوع المسرحية، بل ومن أشخاص المأساة.»
قال: «إنني في كتابي «العلم والعالم الحديث» قد عالجت موضوع «ضرورة الهزل».» وأنزل الكتاب من فوق الرفوف، وأطلعنا على ما كتب في هذا الصدد في الفصل الثالث عشر، الذي قرأناه معا جهارا. (هل حقية الأمر أنه ليس هناك أمر من الأمور، ولا خبرة من الخبرات حسنة كانت أم سيئة، ولا عقيدة من العقائد، ولا سبب من الأسباب، ليس هناك شيء من هذا يبلغ من الجلالة في حد ذاته ما يكفي لشغل الحياة كلها بحيث لا يبقى مكان للضحك؟ الضحك هو الذي يذكرنا بأن نظرياتنا ليست سوى محاولة لجعل الوجود مفهوما، لكنها بالضرورة لا تعدو أن تكون محاولة. ثم ألا يتدخل ما ليس معقولا وما هو غرزي لكي يحفظ التوازن صحيحا بطريق الضحك؟)
وواصل هوايتهد حديثه قائلا: «كثيرا ما يبدو لي أن الرجل الأوروبي بلغ أوجه بين عامي 1400م و1600م، ومنذ ذلك الحين أثقلنا بالتعقيل تقديرنا للجمال. نحن المتعلمين ثقفنا إحساسنا بالجمال أكثر مما ينبغي، ولا ندرك كنه الجمال في بساطة، ومن الجائز أن يكون الإحساس بالجمال أصدق وأقوى لدى غير المتعلمين منه لدينا. إن بناة الكاتدرائيات الأوائل - حتى النورمان والرومانسك - لم يصوغوا النظريات، إنما كانوا «يبنون»، كما أن الشعراء انصرفوا إلى عملهم مباشرة أكثر مما نفعل. نحن أبناء اليوم نبالغ في تعقيد الأمور. إن المكان الوحيد الذي يتراءى لي أن ازدهارا عظيما آخر للثقافة الأوروبية قد يظهر فيه هو الغرب الأوسط في أمريكا، حيث يمكن أن تكون البداية جديدة، وأن تنمو الثقافة من أصولها. وقد عالجت في الفصل الذي كتبته علاجا معقولا مسألة الفارق بين الأمريكان والأوروبيين؛ لا ينبغي للأمريكان أن يحاكوا الأوروبيين، يجب أن يكونوا أنفسهم، وأن يبدعوا من جديد. إن هذه المحاكاة الأمريكية لأوروبا ستفتقر دائما إلى التشويق والحيوية، شأنها في ذلك شأن كل المشتقات. وعلى الأمريكيين أن يدرسوا أوروبا وأن يعرفوا ما أنجزته من أعمال، ولكن عندما يكون الأمر أمر خلق وإبداع، فبالله انسوا كل ما تم عمله من قبل، واخلقوا وأبدعوا!»
قلت: «لا يبقى للمرء في أغوار الخلق والإبداع شيء يستطيع أن يؤديه، أما الدراسة فقد تعين المرء، ولكنها لا تنجيه.»
قال: «إنها لا تعينه إلا إذا تمثلها حتى نسيها وأصبح لا يعيها. وإننا لنجد - كما كتبت مرة - في أكثر الجامعات التي تدرس الأدب، أن الدراسة لا تتجه إلى ما ينبغي عمله، وإنما تتجه إلى ما تم عمله؛ وهي لذلك تميل إلى تقديس الماضي واحترامه. وإني لأفزع من تجميد الذكاء الخالق بالتعليم البالغ في جودته، بالأفكار الساكنة، فيقال للمتعلم: «هذا هو الشيء الصحيح الذي ينبغي لك أن تعرفه.» فذلك قبول سلبي للتعليم المقدس، دون أية نية للتصرف فيه. وعلى المعلمين أن يحسوا إحساسا حادا بالعيوب الكامنة في المادة التي تدرس. إن ما يعلمونه قد يفتقر كل الافتقار إلى عناصر التغذية الضرورية، عليهم أن يحذروا مادتهم وأن يعلموا تلاميذهم أن يحذروها. إن التعليم إذا تجمد، فقل عليه السلام. إن أقسام هذه الكليات سوف تحتاج إلى التعليم، والخطر في أن تتجمد التربية، فيظن «أن هذا وذاك هو الصحيح الذي تجب معرفته»، وإن حدث ذلك مات التفكير. لشد ما أضيق بالغرور الذي ألمسه في بعض ألوان الحديث الذي يدور بين زملائي، ذلك الحديث الذي يرسلونه في ازدراء قائلين بأن النظرية لا تجود إذا [اختبرت نصف اختبار] فحسب، وأنه لا بد من جمع الحقائق في دقة بالغة. كما أضيق كذلك بابتعاد الجامعة عن الحياة العملية، ولا أقصد ابتعادها عن الحكومة الفدرالية وحكومة الولاية فحسب، وإنما كذلك ابتعادها عن الشئون المحلية البلدية. إن وظيفة كبرى تنتظر الجامعات الأمريكية، وذلك أن يمدنوا العمل، أو على الأصح أن يحملوا رجال الأعمال على أن يمدنوا أنفسهم باستخدام نفوذهم في شئون الحياة العملية، فيمدنوا وظائفهم الاجتماعية. ولا يكفي أن يجمعوا الثروة بهذه الطريقة أو بتلك، ثم يتبرعوا بعد ذلك لإحدى الكليات أو المستشفيات، إنما ينبغي أن يكون «الدافع» في جمع الثروة استخدامها في غرض اجتماعي إنشائي.» - «وهل يستطيع الرجل الذي يندفع بدافع الإيثار أن يجمع ثروة ما؟» - «الأرجح أنها تنفق عند جمعها، إنما قصدت أن القانون قد تمدن - فعل ذلك اليونان والرومان وجستنيان وغيرهم - وتخلص الطب من السحر، وتخلصت التربية من الدجل، وقد آن للعمل أن يعرف وظيفته الاجتماعية؛ لأن أمريكا - إن أرادت أن تتمدن - فلا سبيل لها إلى ذلك (في الوقت الحاضر على الأقل) إلا عن طريق طبقة رجال الأعمال، الذين يملكون النفوذ والعمليات الاقتصادية. ولست بحاجة إلى أن أذكر لك أن هناك محاولات كثيرة لتحقيق ذلك، في كلية هارفارد والمدارس العليا على هذا الجانب من نهر شارلز، وهناك محاولات في مدرسة هارفارد الجديدة لإدارة الأعمال على الجانب الآخر من النهر، ولكنها محاولات تسودها روح الاستعلاء وانعدام الخيال، ولو أن الجامعات الأمريكية عرفت واجبها لتناولت العمل بين يديها وعلمته قواعد الأخلاق ومستويات المهنة العالية.»
ثم قال إن من رأيه أن تفسير التاريخ بالعامل الاقتصادي طريقة معيبة جدا، وإن محاولة الإسكندر توحيد العالم بإدخال الحضارة الهلينية في شرقي آسيا - «وبرغم أنه أصاب نجاحا، وخلف من بعده فوضى» - حتى في هذه المحاولة مجهود أنبل وعامل أفعل.
صفحة غير معروفة