وبعدما تلقى هوايتهد بذور الدراسة الكلاسيكية، تابع تنميتها بقية حياته. ولما تقدم القرن العشرون، وظهر أن كثيرا من رجال العلم ينقصهم التوازن الثقافي بدرجة مؤسفة، صار هذا التوازن المحمود عند هوايتهد بين العلم والدراسات الإنسانية مزية من مزاياه الفريدة، وشاع أن «هوايتهد يلم بالطرفين.» •••
ولما بلغ التاسعة عشرة من عمره التحق بجامعة كمبردج، وقد حذق الرياضة من قبل، وكانت طريقة التدريس في كمبردج في تلك الأيام أفلاطونية إلى حد كبير، والجدل حر بين الأصدقاء، فتعلم - كما يقول - من المحادثة بقدر ما تعلم من الكتب. سئل مرة كيف استطاع أن يكتب «العلم والعالم الحديث» فصلا في كل أسبوع خلال العام الدراسي، وهو يلقي في الوقت نفسه محاضراته المقررة بجامعة هارفارد؟ فأجاب «بأن كل ما في الكتاب قد نوقش في الأربعين سنة الماضية.»
وأصبح زميلا في ترنتي في عام 1885م، في سن الرابعة والعشرين الناضجة، وكلية ترنتي بكمبردج من أعظم المؤسسات التعليمية فوق الأرض، ثم كانت بعد ذلك تلك التجربة الكبرى التي وجد فيها تلك الجوهرة النادرة، وأقصد بها التواضع الحق .
في القرنين السابقين كان العالم يرتاح إلى القول بأن سير إسحق نيوتن قد كشف قوانين الكون الطبيعي النهائية، ثم حدث أمر هام، وسأحاول أن أذكر كلمات هوايتهد بنصها بقدر ما تسعفني الذاكرة.
كنا نعتقد أن كل أمر هام تقريبا في الطبيعة قد بات معروفا، ولم تبق إلا بعض النقاط القليلة الغامضة، بعض الشواذ الغريبة التي تتعلق بظاهرة الإشعاع، والتي كان علماء الطبيعة يتوقعون تفسيرها بحلول عام 1900م، وقد أمكن تفسيرها فعلا، بيد أن العلم كله خلال هذا التفسير قد تقوض، وتبددت طبيعة نيوتن التي كان يظن أنها نهاية الأرب. أجل، إن طبيعة نيوتن كانت - وما تزال - نافعة كطريقة من طرق النظر إلى الأشياء، ولكنها لم تعد صادقة باعتبارها وصفا نهائيا للحقيقة، فقد تبدد اليقين.
وما زال الأمر كذلك، ولكن كم غيره قد تعلم هذه الحقيقة؟ إن تبدد اليقين - حينما كان يظن أن اليقين لا يتعرض للهجوم - قد أثر في تفكير هوايتهد بقية أيام حياته. تبددت نهاية الأرب، ومع ذلك فقد لاحظ هوايتهد أن رجال العلم أنفسهم الذين يعرفون قصة هذا التبديد كثيرا ما يتقدمون بمستكشفات يعرضونها وكأنهم يقولون: وأخيرا بلغنا اليقين! «إن العالم فسيح، وليس هناك أعجب من ذلك الجزم القاطع الذي يوهم به الإنسان نفسه في كل عصر من عصور تاريخه، فيتوهم أن طرائق المعرفة عنده نهائية، والمؤمنون والمنكرون في ذلك سواء، والعلماء والمتشككون هم في الوقت الحاضر أكبر اليقينيين، يسمحون بالتقدم في التفاصيل، وينكرون كل تجديد في الأساس، وفي شيوع اليقينية هذا قضاء على المغامرات الفلسفية. إن العالم فسيح.»
وهكذا نبلغ ما سماه هوايتهد «مغالطة النهائية اليقينية»، وهو أقل تعاليمه شيوعا، وعندما يثار هذا المذهب في حديث أو في مطبوع للجمهور، سرعان ما يرى فيه الناس البدعة والضلال، فالمرء قد لا يعرف حقيقة ما لا يحب، ولكنه يعرف أنه لا يحبه؛ فيغضب ويزمجر كلما بدا له الشبح. •••
والمنظر الثاني هو «بيت» دكنز «المكشوف»، لم يكن بيتا خياليا، إنما هو منزل من حجر الصوان، يقع على رأس بارز في البحر عند برود ستيرز، وهو بيت مكشوف فعلا، تهتز جدرانه من تلاطم الأمواج في عواصف الشتاء، وهنا التقى ألفرد هوايتهد بأفلن ويد، وهي سليلة أسرة أيرلندية عسكرية، نشأت في بريتاني، وتلقت دراستها في دير للراهبات، وأتت في صباها إلى إنجلترا لتعيش فيها، واقترن بها هوايتهد في ديسمبر من عام 1890م، وعاشا في كمبردج عشرين عاما من هذا التاريخ، قضيا ثمانية منها من 1898م إلى 1906م في بيت مل بجرانشستر، وهو بيت ريفي من القرن السابع عشر مسقوف بالغاب، يقع موقعا جميلا وسط حديقة غناء، وعلى مقربة منه البركة التي ورد ذكرها في شوسر.
ولم تكن هنا فجوة بين الحياة المدنية والحياة الدينية، وقد شاركا في حياة القرية مشاركة حية، وضربا لأهل القرية مثلا بالامتناع عن شرب الخمر، وكان أهل القرية في ذلك الحين يدمنون الشراب، وحملا على عاتقهما إغاثة المحتاج وعول الخدم؛ فكان في سلوكهما هذا بقية من سلوك الأمراء في القرن الثامن عشر، بل سلوك الإقطاعيين في القرن السابع عشر. وقد ساقت هذه التجربة هوايتهد إلى إدراك الخلق الإنجليزي والعادات الشعبية الإنجليزية التي استطاع أن يربطها بتعميماته الفلسفية، والتي عاونت على صبغ تفكيره المجرد بالمسحة الإنسانية، وانغمس كذلك في سياسة الأحرار «وكان عملا مثيرا ... كان البيض الفاسد والبرتقال من الأسلحة الحزبية الفعالة، وكثيرا ما رميت به، ولكنها كانت دلائل القوة أكثر من دلائل الشعور السيئ.»
سئل مرة: «في أية فترة من فترات حياتك بدأت تحس أنك ملكت زمام موضوعك؟»
صفحة غير معروفة