بدأ الأمر بإنشاء علاقة طيبة مع فأر، تذكرت أول الأمر كم كنت أخشى الفئران، ولم أجرب يوما بأن أقيم علاقة طيبة مع واحد منها، ربما كنت بحاجة لزنزانة حتى أكتشف كم هم لطفاء .. إنه يصعد على جسدي ويتجول على سطحه دون أن يؤذيه، لقد بات يلعب معي، يصل إلى صدري ويهبط، اكتشف في ذلك لعبة مسلية، لم يؤذني البتة، لم أشعر بأي خطر لملامسته جسدي!
عدت وحيدة بموته؛ فقد ضحى بحياته لأجلي، أرجوكم لا تهزءوا بي، لقد فعلها حقا .. حينها قدموا لي وجبة ذات رائحة نتنة، ولكني قد اعتدت الروائح حيث لم أعد أفهم متى يكون الطعام فاسدا ومتى يكون نتنا وحسب، لقد تناول الفأر جزءا منها وانقلب على ظهره، ثم بدأ يترنح إلى أن انطفأ ومات.
كان علي أن أجد سبيلا آخر للاستمرار في الحياة، فبدأت أترقبه وهو يفنى، ظننت أنني سأفهم العدم والفناء من فأر جامد أمامي، ولكن الحراس لم يسمحوا بذلك، وأخرجوه من الزنزانة حرصا على سلامتي ومشاعري.
عدت للانتظار ثانية، وحيدة، بائسة في مكان قاتم وغامض وزمن غائب، السؤال عن الزمن في مكان كهذا يبدو ضربا من المهزلة، الزمن هنا دون ملامح، يفتقد بقسوة أبعاده الثلاثة ليضيق معناه في شيء واحد وهو الذاكرة، أو فلأكن أكثر صدقا .. الحنين، هذا الشعور الساذج بتجميل الماضي حيث لم أعد أفهم إن كان ما أعيشه هو ذاكرة أو ذاكرة مشتهاة، «نعم، الحنين يخدعنا.» وليكن، اتركوني غارقة في تلك الخدعة عساني أنتصر بالذاكرة على العزل والوحدة.
كنت أومن بأن تلك العزلة ستنتهي، لكني أردتها ألا تقتلني قبل أن تنتهي، كان يجب أن أرمم نفسي باستمرار حتى لا أخرج من هنا منهارة فاقدة لأبسط ملامح الحياة، فكان لا بد من تلك الخدعة المتعلقة بالحنين، وسألت مجددا: «لماذا لم يأت؟» زيارة واحدة تكفي كي أدرك أن لي في الخارج حياة ما، أعرف أنهم يخشون أثر الزنزانة، أعرف أن الزنزانة إذ تنطبع على أجسادنا يصعب التعافي منها، ولكن كان يجب أن يأتي لمرة واحدة فقط، لقاء واحد يكفي ليعرف الحراس أن لي زوجا وحبيبا في الخارج ينتظرني. لا لشيء وإنما كي يحمي جسدي من الحراس.
في الزنزانة أو حتى في السجن كله، لا مكان لجسد امرأة وحيدة، لو أن أحدا في الخارج سأل عني مرة واحدة! لو أن أي رجل في الخارج أحضر لي رسالة أو وجبة أو قميصا لما كنت وحيدة ولما تعرضت لكل ما تعرضت له فيما بعد.
بدأ الأمر بهمس يشبه حفيف ثعبان خلف باب الزنزانة، اقتربت لأسمع ذاك الهمس، فكان صوت الحارس يقول لحارس آخر: «لا تقلق .. ليس لها أحد.» ولم أفهم كل ما قيل ولكني أدركت أنهما قررا أن يتقاسما جسدي مناصفة، وكل ما يحدث ما هو إلا تفاوض على من يبدأ؟ وكيف؟
كيف يمكن لامرأة مزقتها العزلة، فتركت معلقة بذاكرة قد غاب أبطالها أن تقاوم سجانا ورجلا؟ لا أحد في هذا الكون يدري بما شعرت، ولا أن يفهم معنى أن تكون مسلوب الحرية بين عالم من الحراس الرجال، كيف يمكن لأحدهم أن يدرك ما الذي أعانيه وما الأشياء التافهة التي أحتاجها؟ لا شيء .. فقط رجال، وأصوات رجال، وتحقيق من رجل، وتعذيب من رجل.
وأقسى ما شعرت به لحظتها أنني كنت أعيش وسط الهمسات؛ حيث تتحفز كل الحواس ولا تدرك شيئا، الرؤية معدومة، سوداء، قاتمة، روائح نتنة لم تزل تفوح من هذا العالم الغريب، ولا أستطيع أن ألمس سوى جسدي المرتجف، والذي راح يتصبب عرقا .. أما السمع فهو أقسى ما أحس، أصوات خشنة منخفضة، همس مرعب دون أن تدرك إن كانت همسات بشر حقيقيين أم لا.
فتح باب الزنزانة بعد لحظات من التمتمة التي لم أسمعها جميعها، وقد بدا واضحا أن الحارسين أخيرا أنهيا تفاوضهما واتفقا أن يدخل الأول ويراقب الآخر له المكان ريثما ينهي مهمته ثم يتبادلان الأدوار، دخل الحارس وقد أغلق بنفسه باب الزنزانة علينا، وترك المفتاح في سكرة الباب. لقد رأيته جيدا، لم يكن وحشا، صدقوني، كان يبدو كائنا بشريا يشبه أولئك الذين نراهم في الشوارع والساحات العامة، يمتلك عينين اثنتين تماما كأي إنسان، ذو ذقن وشعر عاديين، حتى إنه يجيد الابتسامة، لا تتصوروا أنها ابتسامة صفراء شريرة توحي بالجريمة، لا، أقول الصدق، إنها ابتسامة عادية بسيطة فيها شيء من الفرح العادي، كما أنه يستطيع أن يسعل، لا أتحدث عن سعلة مرض، رغم أنه يجيد المرض أيضا، بل أحكي هنا عن تلك السعلة التي تسبق فعلا أو قولا ما، تلك اللحظة التي تضع يدك أمام فمك وتسعل سعلتين خفيفتين قبل أن تصارح الآخر بشيء ما، تماما مثلهما سعل قبل أن يأخذ خطوة إلى الأمام.
صفحة غير معروفة