يبدو أن تلك الحادثة التعيسة جعلت كولي يتذوق طعم الإطاحة بالأشخاص. من المؤكد أن الأمر عزز من سمعته؛ ففي عام 1832 انتخب لعضوية مجلس الجمعية الجغرافية الملكية، وبعد ذلك بثلاثة أعوام أصبح نائب الرئيس، ولكن صعوده عبر مناصب المؤسسة الإنجليزية توقف فجأة عندما افتعل شجارا مع سكرتير الجمعية الجغرافية الملكية، العقيد ألكسندر ماكونوكي، متهما إياه بسوء السلوك المالي. تصاعدت الواقعة، التي ربما يكون قد أشعل شرارتها أمر تافه بقدر إضاعة رسوم اشتراك كولي، حتى وصلت إلى دعوات للمبارزة، وأجبر كولي على التنحي من منصبه الرسمي. ومنذ ذلك الحين، كرس نفسه للبحث عما أطلق عليه الشخصية الرائدة والبارزة في الاستكشاف الفيكتوري، ديفيد ليفينجستون، «الاكتشافات النظرية»، والتي، مع ذلك، أعطت منهجا وموثوقية للأفكار الأوروبية بشأن أفريقيا، وعلى الأخص غرب السودان.
في عام 1834، أجرى كولي مقابلة مع تاجر عربي وعبده الأسود في لندن بشأن جغرافيا شرق أفريقيا. وربط بين معلوماته وبين المصادر البرتغالية وغيرها من المصادر وأخرج عملا رائدا عن المناطق الداخلية في القارة، اقترح فيه فكرة وجود بحر داخلي غير مكتشف في شرق أفريقيا يسمى بحيرة نياسي، والتي تعرف حاليا باسم بحيرة تنجانيقا. قاده هذا إلى استكشاف شامل لمجموعة أخرى من المصادر، والتي كانت حتى ذلك الحين مستخدمة استخداما قاصرا؛ وهي المصادر الجغرافية العربية القديمة. بالاستعانة بهذه المصادر اعتقد أن بوسعه تصويب أخطاء أسلافه، وبخاصة رسام الخرائط الفرنسي اللامع من القرن الثامن عشر جان بابتيست بورجينيون دانفيل ورسام الخرائط الخاص بالرابطة الأفريقية، جيمس رينيل:
تطرح الجغرافيا العربية لأفريقيا، في الوقت الحاضر، قدرا كبيرا، ولكنه مشوش، من المادة العلمية، التي أحيانا ما يستعين بها الكتاب المعاصرون، ليختار كل منهم ما يبدو أنه يخدم غرضه، ويكيفه بما يتلاءم مع وجهات نظره بتأويل يكافئ في ضحالته وتحيزه طريقته في البحث. سمح جغرافيون معاصرون - دانفيل ورينيل على غير المتوقع - لأوجه تشابه متخيلة في نطق الأسماء أن تقودهم بعيدا عن الحقيقة وعن مسار الاستقصاء القويم ... جردت الفوضى التي أدخلتها هذه الطريقة الخاطئة في الأسلوب الأعمال الجغرافية الأولى عن وسط أفريقيا من كل قيمة لها.
عزم كولي على «فحص أعمال المؤلفين العرب الأعظم قيمة» وتطوير المعلومات الواردة فيها. ساعده في هذه المهمة صديق، هو المستشرق الإسباني باسكوال كيانجوس، الذي كان يضع مخططا لتاريخ الإسلام في بلده بالعودة إلى مخطوطات المؤرخين العرب ومقارنتها بالروايات الأوروبية الموجودة. استعان كولي بنفس التقنية؛ وهي المقارنة المرجعية بين المصادر العربية ومصادر مؤرخين أوروبيين، مثل المؤرخ البرتغالي جواو دي باروس والإسباني لوي دل مارمول كربخال، بالإضافة إلى الكتابات الأحدث لبارك وكاييه. بهذه الطريقة استطاع تقدير مدى موثوقية كل مصدر وتحديد أصل المعلومات. كان من شأنه أن يبدأ من الصفر، متخليا عن كل الفرضيات السابقة عن مواضع إمبراطوريتي غانا ومالي. وبهذه المعالجة الحيوية، التي دعاها «تصحيح المصادر»، استبعدت التقارير الأكثر خيالية والروايات المستقاة من مصادر غير مباشرة.
كانت استعانة كولي بالنصوص العربية مؤشرا على النهج الذي كان يتبعه، والذي كان واسع الأفق مقارنة بعصره . كانت الجغرافيا الأوروبية من وجهة نظره ضيقة الأفق؛ وأكدت كتاباته على حقيقة أن الأفارقة السود كان لهم ماضيهم الخاص بهم، وكانت إلى حد كبير متحررة من العنصرية التي ظهرت بعده. على سبيل المثال، لم يغفل، عند وصفه لعمليات الإعدام «الهمجية» في بلاط مواتا يامفو في شرق أنجولا، عن ملاحظة أن القوانين الجنائية في البلدان الأوروبية كانت شديدة القسوة على نحو مماثل.
كان جغرافيان عربيان مفيدين بوجه خاص لكولي؛ وهما الأندلسي أبو عبيد الله البكري، الذي كتب أهم عمل له، كتاب «المسالك والممالك»، في عام 1068، وابن خلدون، وهو عالم ولد في تونس في عام 1332. لاحظ كولي أن هذين المؤلفين كانا قد كتبا باستفاضة عن حضارات غرب أفريقيا. كان البكري مفيدا على نحو خاص فيما يتعلق بإمبراطورية غانا القديمة، والتي كانت، على خلاف الدولة الحديثة التي تحمل نفس الاسم، تقع على بعد ثلاثمائة ميل غرب تمبكتو وكانت لا تزال في تصاعد عندما كان على قيد الحياة. أما ابن خلدون فكان المصدر الرئيسي للمعلومات عن إمبراطورية مالي، التي امتدت من جاو إلى الساحل السنغالي وتضمنت غانا في القرن الثالث عشر.
لاحظ البكري أن اسم غانا كان يعني أشياء متنوعة. كان لقبا يعطى لحكام المملكة، ولكن كان يوجد أيضا ما سمي «مدينة غانا» التي هي:
مدينتان سهليتان. إحداهما المدينة التي يسكنها المسلمون، وهي مدينة كبيرة فيها اثنا عشر مسجدا أحدها يجمعون فيه. ولها الأئمة والمؤذنون والراتبون، وفيها فقهاء وحملة علم. وحواليها آبار عذبة منها يشربون وعليها يعتملون الخضراوات.
على بعد ستة أميال من مدينة غانا كانت تقع «مدينة الملك»، والتي كانت تسمى «الغابة». وكان فيها قصر، ومسجد، ومبان مقببة، وحولها غابات كانت تحتوي على سجون، وكذلك بساتين وأدغال حيث كان يسكن «سحرتهم، وهم الذين يقيمون دينهم». كان الملك وثنيا، يتحلى بحلي النساء في العنق والذراعين ويجعل على رأسه الطراطير المذهبة، لكنه كان يحيط نفسه بمترجمين ووزراء مسلمين. وحول قبته عشرة أفراس بثياب مذهبة ووراء الملك عشرة من الغلمان يحملون الحجف والسيوف المحلاة بالذهب، وعن يمينه أولاد ملوك بلده قد ضفروا رءوسهم بأنواع الذهب وعليهم الثياب الرفيعة. وعلى باب القبة كلاب منسوبة لا تكاد تفارق موضع الملك تحرسه، في أعناقها سواجير الذهب والفضة يكون في الساجور عدة رمانات ذهب وفضة.
وكان يقال إن ملك غانا كان إذا احتفل يضع مائتي ألف رجل في الميدان، منهم رماة أزيد من أربعين ألفا. وكان يمول قوته العسكرية بفرض الضرائب على المواد الخام التي كانت تستخرج في المملكة، بحسب ما أورد البكري:
صفحة غير معروفة