بعد حمدلة استهلالية، تبسط نسخة هودا وديلافوس من كتاب «تاريخ الفتاش» آيات إجلالها لأسكيا الحاج محمد. أما كراهية كتاب الكتاب لسلفه، سني علي، فلا تكاد تعرف حدا؛ فكان «الملعون» مسلما ضعيف الإسلام اقترف «بدعا فاضحة» و«أفعالا وحشية دموية» مع الناس واضطهد علماء تمبكتو. لا يمكن للتناقض بينه وبين أسكيا الحاج محمد أن يكون أوضح من هذا. تتدفق كلمات كتاب «تاريخ الفتاش» كما يلي: «من الصعب أن نحصي الفضائل والصفات الكثيرة [لأسكيا الأول]، والتي منها مهاراته السياسية الممتازة، وكرمه تجاه رعاياه وانشغاله بالفقراء. لا يمكننا أن نجد نظيره في أي حاكم جاء قبله أو بعده.»
يبدو أنه يوجد سبب جلي في أن كلا كتابي التأريخ انهالا بالمديح على هذا المغتصب لعرش سونجاي؛ ففي حكمه ازدهرت تمبكتو كما لم يحدث من قبل. بحسب كتاب «تاريخ الفتاش»، كان هذا نتيجة انسجام حدث بين الإمبراطور وتمبكتو. في عامي 1498-1499، عين محمود حفيد محمد آقيت في منصب قاضي المدينة. كان في الخامسة والثلاثين من عمره فحسب، وكان أول شخص من نسل آقيت يصل إلى هذا المنصب الأكثر نفوذا في التسلسل الهرمي الوظيفي في المدينة، وظل في هذا المنصب مدة خمسة وخمسين عاما.
يحكي كتاب «تاريخ الفتاش» أنه في أحد الأيام، أتى أسكيا الحاج محمد إلى تمبكتو ليحتج لدى محمود على عدم إطاعته لأوامره. فتوقف خارج المدينة، وركب القاضي بشجاعة خارجا إلى معسكر الإمبراطور. بدأ أسكيا اللقاء بسلسلة من الأسئلة الموجهة: هل كان القاضي محمود بطريقة ما أفضل أو أجل من كل أسلافه العظماء، الذين بدأ يعددهم وكانوا قد أطاعوا ملوك سونجاي السابقين؟ فأجاب القاضي محمود بالنفي في كل مرة. فسأله أسكيا: فلماذا إذن طرد مرارا وتكرارا رسل الإمبراطور دون أن يفعل ما قيل له؟ أجاب الشيخ بانتهار:
هل نسيت أم تناسيت يوم جئتني في داري وأخذت برجلي وثيابي فقلت: «جئت أدخل في حرمتك وأستودعك نفسي أن تحول بيني وبين جهنم. فانصرني وأمسك بيدي حتى لا أقع في جهنم. وأنا وديعتك.» فهذا سبب طردي رسلك ورد أمرك.
كان سني علي دون شك سيقتل القاضي في التو واللحظة عقابا له على صفاقته، لكن أسكيا الحاج محمد كان رجلا متدينا وبدلا من ذلك قال: «نسيت ذلك والله!» وحيث إن القاضي محمود كان قد ذكره بواجبه الديني، فقد استحق مكافأة سخية:
أطال الله إقامتك بيني وبين النار وغضب الجبار. فأنا أستغفر الله وأتوب إليه. وحتى الآن أنا وديعتك آخذ بذيلك. فاثبت في هذا المكان، ثبتك الله وادفعن عن نفسي!
بعد ذلك ركب الإمبراطور حصانه ورجع «فرحا مسرورا»، بحسب ما أورد كتاب «تاريخ الفتاش».
طيلة المائة السنة التالية سيعيش حكام سونجاي في كنف الحماية الروحية لعلماء تمبكتو، بينما وفرت للمدينة بدورها الحماية الدنيوية من جانب أباطرة جاو. كان هذا زمن الازدهار، الفترة التي ستحظى فيها تمبكتو باشتهارها كمدينة عظيمة للعلماء. في عهد القاضي محمود، أعيد تنظيم أبنية المدينة الرئيسية ووسعت، وفي ذلك مسجد جينجربر. كانت مكانا مسالما - كانت مكانا هادئا جدا، بحسب كتاب «تاريخ الفتاش»، حتى إن المرء يمكن أن يمر بمائة رجل من أهلها، فلا يجد مع أحد منهم حريشا ولا سيفا ولا مدية - وكبيرا؛ إذ كان يوجد ما يكفي من السكان لإعالة ستة وعشرين بيتا من بيوت الخياطة، التي كان يشرف على كل منها شيخ رئيس معلم عنده من المتعلمين نحو خمسين. انتقلت أعداد كبيرة من العلماء وطلبة العلم إلى تمبكتو، فتضخم المجتمع الأكاديمي ليصل إلى حجم غير مسبوق ويملأ ما بين 150 و180 مدرسة لتحفيظ القرآن، التي كان بكل منها عشرات وحتى مئات من التلاميذ. إحدى هذه المدارس، التي كانت تابعة لشخص يدعى علي تكريا، كان بها ما بين 173 و345 تلميذا، بحسب كتاب «تاريخ الفتاش»، الذي ذكر أنه كان يوجد من ألواح الصبيان 123 لوحا يتدرب عليها التلاميذ على الكتابة في عرصة داره، تكفي لأن تكون جملة القرآن محصلة فيها. من شأن هذه الأعداد أن تستخدم لوضع تقديرات بأنه كان يوجد 25 ألف تلميذ في تمبكتو في هذا الوقت، ولكن بحساب أكثر اتزانا يمكن أن نقدر أن عدد تلاميذ المرحلة الابتدائية كان أربعة إلى خمسة آلاف، وأن تعداد المدينة لم يكن يزيد عن خمسين ألفا. ومع ذلك، كان من شأن هذا أن يجعلها مدينة عالمية كبيرة في بداية القرن السادس عشر.
كان للأدب سيطرة غير عادية على هذا المجتمع، الذي عانى من «ولع شديد باقتناء الكتب»، على حد تعبير أحد الأكاديميين. في ثقافة متقشفة كان فيها متاع الدنيا مستهجنا، صار استيراد المخطوطات ونسخها إحدى صور الهوس المستحوذة على النخبة؛ فكان من شأنهم أن يتوددوا إلى الزوار على أمل أنهم قد يكون بحوزتهم عمل جديد يمكن شراؤه أو استعارته، بينما أدت زيادة الطلب إلى رفع أثمان الكتب إلى مستويات مبالغ فيها. يروي كتاب «تاريخ الفتاش» أن أسكيا داود، خلف أسكيا محمد، ساعد محمود كعت في شراء قاموس نادر بقيمة ثمانين مثقالا، أو ما يعادل تقريبا 340 جراما من الذهب، وهو ما سيساوي 16 ألف دولار أمريكي بأسعار وقتنا الحالي. كان يوجد كتب أرخص تباع في تمبكتو - بيع مجلد واحد مستعمل من كتاب عنوانه «شرح الأحكام» مقابل ما يزيد قليلا عن أربعة مثاقيل - وربما كان القاموس الذي ثمنه ثمانون مثقالا مزخرفا زخرفة جيدة خاصة ويتألف من مجلدات متعددة. يحكي كتاب «تاريخ الفتاش» عن قاموس آخر كان مملوكا لأحد التمبكتيين وكان يضم ثمانية وعشرين مجلدا. أدى الطلب على الكتب إلى قيام صناعة نسخ احترافية كبيرة في المدينة وفي الإمبراطورية عموما. عين أسكيا داود نساخا لديه لنسخ المخطوطات وكثيرا ما كان يقدم هذه المخطوطات إلى العلماء كوسيلة لكسب الحظوة والنفوذ في تمبكتو.
يمكن العثور على معلومات مفصلة عن الكيفية التي كانت تنتج بها الكتب في حرد المتن، وهو التوصيف القصير لأصل المخطوطة الذي كان يدرج عادة في نهاية الكتاب. يصف حرد المتن لستة مجلدات من نسخة من القرن السادس عشر لقاموس «المحكم» لابن سيده قائمة بالمدفوعات والمواعيد النهائية، مما يبين أن النساخ الذي كان يعمل بدوام كامل كان يحتاج إلى ثلاثة وعشرين يوما لنسخ مجلدين من الكتاب، بمجموع 179 مطوية (ورقة). كان يوجد تسعة عشر سطرا من النصوص في الصفحة؛ لذا كان النساخ يكتب في المتوسط 285 سطرا من النصوص في اليوم. استغرق نساخ آخر تسعة عشر يوما إضافية ليضيف التشكيل من أجل النطق السليم لهذه المجلدات، بمعدل 300 سطر من النصوص تقريبا في اليوم. عادة ما كان يدفع للنساخ مثقال واحد في الشهر، بالإضافة إلى ذلك كان نصف مثقال يدفع لمصحح ملم بالموضوع، والذي كان يصحح الأخطاء. كانت تكلفة العمالة وحدها لعمل كبير مثل «المحكم» تصل إلى حوالي واحد وعشرين مثقالا، أو تسعين جراما من الذهب، وتضاف أيضا إلى ذلك تكلفة الورق التي كان يجب أخذها في الاعتبار؛ إذ كان غالي الثمن، لأن معظمه كان يستورد من شمال أفريقيا ومصر. كان من المرجح أن يكلف الورق المستخدم في أي مجلد كبير خمسة مثاقيل أو أكثر.
صفحة غير معروفة